محمود أفندي.. عالم اخترق بدعوته أسوار العلمانية وقاوم الانقلابات التركية

أحمد يحيى | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

جنازة مليونية شهدتها منطقة الفاتح التاريخية بمدينة إسطنبول، لتشييع الشيخ "محمود أسطى عثمان أوغلو"، الذي وافته المنية في 23 يونيو/حزيران 2022. 

تقدم الجنازة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقطاع عريض من قادة الدولة على رأسهم وزير الداخلية، سليمان صويلو، ووزير الشؤون الدينية، علي إرباش. 

وحرص أردوغان على أن يحمل نعش الشيخ بنفسه، حيث دفن في مقابر "ساكز أغاجي" الشهيرة في منطقة "أدرنة كابي". 

وللشيخ التسعيني مآثر عديدة في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، وشهد التحولات الكبرى نحو العلمانية، وكذلك ساهم في عصر العودة إلى الهوية الإسلامية. 

فالرجل الذي بلغ تعداد أتباعه عشرات الآلاف، كان له أثر سياسي واضح، لا سيما عندما ساهم في وأد الانقلاب العسكري عام 2016. 

نشأة دينية 

ولد "محمود أسطى عثمان أوغلو" وشهرته "محمود أفندي"، في 31 أغسطس/ آب 1929، في قرية تافشانلي بمحافظة طرابزون، حيث الشمال التركي المطل على البحر الأسود، وهي مسقط رأس أردوغان أيضا.

كانت عائلته ملتزمة بالتعليم الديني، فوالده "علي" كان إماما لمسجد القرية، ووالدته فاطمة اهتمت بالعلوم الدينية، وحرصت على تعليم فتاها مشارب تلك العلوم. 

وبالفعل أبدى الفتى اليافع نبوغا في تحصيل العلم، فأتم حفظ القرآن الكريم عن عمر 10 سنوات. 

بعدها انتقل إلى قرية "بالابان" القريبة منهم، ليتعلم اللغة العربية وقواعد النحو والصرف على يد الشيخ عبد الوهاب أفندي. 

أهله ذلك ليبدأ في تعلم بقية العلوم الدينية الأخرى مثل التفسير والفقه والحديث على يد الشيخ "دورسون فيضي جوفين". 

وفي سن 16 عاما حصل على أول إجازة علمية لتدريس العلوم الدينية، وهو النهج المعتمد آنذاك للأئمة والوعاظ الأتراك.

رحلته الدعوية 

بعد حصوله على الإجازة، بدأ التدريس في بلدته والقرى المحيطة بها، وأصبح إماما لمسجدها. 

ثم خصص 3 أسابيع سنويا لجولة في المدن التركية لتعليم الناس، ومساعدتهم على حل مشاكل حياتهم وفق منظور الشريعة الإسلامية. وفي عام 1951، جرى تعيينه واعظا في منطقة ديفريجي بمقاطعة سيفاس.

حينها بدأ جذب انتباه الناس من حوله بأحاديثه خاصة وأن الدولة كانت تعيش آنذاك أوج العلمانية والبعد الكامل عن مظاهر الحياة الإسلامية. 

في عام 1953، وقعت حادثة مفصلية في حياته عندما التقى بشيخه "أحيسكالي علي حيدر أفندي" الذي دعاه للوفود إلى إسطنبول والبقاء فيها. 

وبالفعل شد الشيخ "محمود أفندي" رحاله إلى المدينة الكبرى، مصطحبا زوجته وهي ابنة خاله التي أنجب منها ثلاثة أبناء. 

واستقر به الحال في منطقة الفاتح بوسط المدينة، وتحديدا بجوار "جامع إسماعيل آغا" الذي أصبح ملء السمع والبصر على يد الشيخ وأتباعه فيما بعد. 

إنقاذ الجامع 

لمعرفة كيف كان وضع المساجد في تركيا آنذاك، يمكن إلقاء نظرة على "جامع إسماعيل آغا" الذي ذهب الشيخ إلى جواره. 

كانت الحكومة التركية قد ابتاعت المسجد بأرضه الشاسعة إلى أحد كبار التجار، الذي حوله إلى مستودع كبير، يستخدمه في تخزين البضائع من الخضراوات، وكذلك أصبح مقرا للأحصنة والمواشي (البهائم). 

حزن "محمود أفندي" لوضع الجامع، وطلب من صديقه الشيخ "علي حيدر" مشاركته في شراء المسجد وتجديده، وهو ما حدث بالفعل، حيث بعث المسجد التاريخي من جديد. 

وبدأ الشيخ "محمود أوغلو" إحياء بعض الشعائر الدينية على حذر، لأن الحكومة كان تجرم ذلك الأمر، ورويدا رويدا توافد الناس إلى جامع إسماعيل آغا. 

ونزل "محمود أفندي" إلى الأحياء المجاورة وزار المنازل، وطلب من الناس الوفود إلى الجامع. وهناك أقام مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وعقد دروس الفقه والسيرة والتفسير. 

وكان الشيخ يعتمد في فقهه على المذهب الحنفي المنتشر في عموم تركيا، أما طريقته فهي الصوفية تبعا للطريقة النقشبندية الكمشنماونية. 

ومع الوقت وأسلوب الشيخ الجذاب زاد عدد مريديه وتلامذته، من نحو 15 فردا في البداية، إلى العشرات ثم الآلاف. 

حتى أن تلاميذ محمود أفندي حاليا يفتخرون كلما سمعوا الرئيس أردوغان يتلو آيات من القرآن الكريم في المناسبات العامة والاجتماعات الجماهيرية.

وذلك لأن محفظ أردوغان هو الشيخ كمال أفندي، وهو من تلامذة الشيخ محمود أوغلو.

صراع مرير 

كان من الصعب أن يكون مسار الشيخ محمود أفندي سهلا، وسط أنظمة عسكرية علمانية اتسمت بالشدة، والانقلابات المتتالية. 

وذاق الشيخ من ويلات الانقلابات ما ذاقه معظم الشعب التركي، فعند وقوع الانقلاب العسكري عام 1960، والذي راح ضحيته رئيس الوزراء عدنان مندريس، كان محمود أفندي من ضمن قوائم المطلوبين. 

وبالفعل أصدر الجنرالات حكما عليه بالنفي من إسطنبول إلى مدينة "إسكي شهير" وسط الأناضول. 

لكن تدخل مفتي إسطنبول حينها صلاح الدين قايا، الذي كان يقدر محمود أفندي، حال دون تنفيذ القرار. 

ووضع الشيخ على قائمة المراقبين، بعد الانقلاب العسكري عام 1980، وهو أشرس الانقلابات وأوقعها أثرا، بقيادة الجنرال "كنعان إيفرين"، إذ راح ضحيته قرابة 650 ألف شخص ما بين معتقل وطريد وقتيل.

وبالفعل في عام 1982 اتهم بالضلوع في اغتيال مفتي منطقة "اسكودار" في إسطنبول، الشيخ حسن علي أونال، لكن المحكمة برأته من التهمة بعد عامين قضاهما في السجن. 

وتعرض الشيخ لمحنة أخرى عام 1985، حيث أحيل لمحكمة أمن الدولة بسبب خطبة ألقاها بحجة أن خطبه ودروسه تهدد مبدأ علمانية الدولة، لكن المحكمة قضت ببراءته. 

محاولات اغتياله 

بدا أن الطريق بين "محمود أوسطى عثمان أوغلو" والنظام التركي آنذاك، قد وصل إلى نهايته. 

ورأى النظام أن شعبيته في ارتفاع، وأن جميع محاولات تحجيمه قد باءت بالفشل الذريع، فبدأ مسلكا آخر لإيقاف الشيخ.

ففي عام 1998 قتل صهره الشيخ خضر علي مراد أوغلو غدرا في مسجده "إسماعيل آغا".

وفي عام 2006 قتل الشيخ بيرم علي أوزتورك وهو من أكبر طلبة محمود أفندي وصهره، وهو يلقي درسه على كرسي الوعظ والإرشاد في جامع "إسماعيل آغا" أيضا.

لكن الصدمة جاءت عام 2007، مع محاولة اغتيال الشيخ نفسه بالقرب من مكان إقامته الجديدة في حي تشاووش باشا بإسطنبول.

وأطلق وابل من الرصاص على سيارة الشيخ، لكنه نجا، ثم حدث إطلاق نار آخر على المستشفى الذي كان يتلقى فيه العلاج، ولم يصب بأذى. 

دوره وتأثيره 

ذكر الداعية الإسلامي العراقي، الشيخ وليد الحسيني، أنه بعد أن فاز حزب العدالة والتنمية بالحكم في تركيا، وجد الشيخ محمود فسحة للدعوة ونشر العلوم.

فبدأ فتح المدارس الحلقية لتدريس العلوم الشرعية على النهج الإسلامي القديم.

ومما يرويه عن حياة الشيخ أنه في عام 2005 دخل محمود أفندي المسجد الحرام لأداء العمرة ومعه 30 ألفا من تلاميذه ملؤوا ساحة الطواف.

وأوضح أن "طلاب الشيخ يكنون له احتراما وتكريما وطاعة قل مثيلها، ويعدونه مجدد هذا الزمن".

وفي عام 2010 توجه من 42 دولة 350 عالما إلى مدينة إسطنبول قادمين من أجل المشاركة في حفل تكريم وتقديم جائزة الندوة الدولية من أجل خدمة الإنسانية، وهي جائزة خاصة بالشيخ محمود أفندي النقشبندي.

بعدها جرى حفل تكريم للشيخ بإسطنبول في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2010، وقدمت إليه جائزة الإمام محمد بن قاسم النانوتوي، التي تمنح لشخصيات تترك أثرا في مجال الدعوة الإسلامية.

مناهضة الانقلاب 

شهد الشيخ محمود أفندي جميع الانقلابات العسكرية في تركيا، وذلك منذ مهد الجمهورية، ومنها انقلابات (1960 و1971 و1980 و1997). 

لكن لعب الشيخ الدور الأبرز خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، حيث تصدى للانقلاب هو وجماعته وسقط منهم عدد من الشهداء في محيط منطقة الفاتح. 

وقد شهدت منطقة الفاتح إقبال العديد منهم بأعداد غفيرة وصمودهم أمام القوات الانقلابية. 

وكان أمرا لافتا مشاركة أفراد الجماعة الصوفية إلى جانب بقية أطياف الشعب التركي وتلاحمهم معهم من أجل الحفاظ على المكتسبات الوطنية والإبقاء على الحكومة الشرعية.

وهو أمر حسب لجماعة "محمود أفندي". وأرجع سبب ذلك النشاط، أن الشيخ يعرف جيدا خطورة الانقلابات وأثرها السلبي على قوة الدولة والهوية الإسلامية. 

وبحسب تقرير صحيفة "يني شفق" التركية في 24 يونيو/ حزيران 2022، تقدر النسبة المئوية للوزن الانتخابي لجماعة "محمود أفندي" بما يفوق 2 أو 3 بالمئة، وهي نسبة مؤثرة في أي استحقاق انتخابي وليست بالقليلة. 

ويقدر أتباع الشيخ بالملايين، وهم منتشرون بشكل لافت بمنطقة الفاتح بإسطنبول، وخاصة في حي "ياووز سليم".

 كما أن لهم انتشارا في ولايات قونيا المعروفة بكونها معقلا للنفوذ الإسلامي الصوفي، وفي طرابزون مسقط رأس الشيخ.

لذلك فإن الشيخ قد ترك إرثا كبيرا في تاريخ الدولة التركية الحديث من طلاب علم وتلاميذ وأتباع بالملايين، والأهم مواقف مشرفة لنشر الدعوة ومجابهة الظلم. 

وكانت من أشهر كلماته "ليست مهمتنا قتل الناس، ولكن وظيفتنا أن نحيي الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وأن نوصلهم إلى الله تعالى”.