فاينانشال تايمز: المملكة تغازل المستثمرين السعوديين بعد هروب الأجانب

12

طباعة

مشاركة

وسط أزقة وشوارع جدة القديمة المرصوفة بالحصى، أُغلق أكثر من 20 متجراً، وعُلِّقت على أبوابها الخشبية الكبيرة لوحات كتب عليها "للإيجار". التجار في المتاجر المجاورة، يبيعون كل شيء ابتداء بالعبايات إلى المراتب والساعات الصينية والعطور والتوابل وسط انهيار كارثي للسوق ونزوح أكثر من 1.7 مليون أجنبي وارتفاع الأسعار بسبب السياسات الحكومية.

ردّد محام سعودي بلهجة متشائمة في حوار مع صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية -وقد شارك مكتبهم في إغلاق أكثر من 50 شركة على مدار الـ 18 شهرًا الماضية-: "الأمر يتعلق بالسيولة في الأساس، وليس بقابلية استمرار النشاط التجاري، وإنما (بالنقص في الإيرادات)". وتابع طالبا، مثل كثير من الأشخاص الذين قابلتهم الصحيفة، عدم ذكر اسمه خوفاً من الوقوع تحت سطوة  النظام: "ارتفعت نسبة الإفلاس على مدار العام الماضي".

أما من جهته، فيتمتع سامي الصفران، الرئيس التنفيذي لشركة "ميبكو"، أحد أكبر منتجي الورق في المنطقة، بتفاؤل غريب. وقال للصحيفة: مثل العديد من الشركات السعودية، تحملت "ميبكو" خمس سنوات من النمو الباهت وتدابير التقشف الحكومية. وقامت وشركتها الفرعية من أجل إعادة التدوير بتسريح عدد كبير من الموظفين "للتخفيف من تأثير رسوم المغتربين" والتكيف مع البيئة المتغيرة. ولكننا نتطلع إلى توسيع قدراتنا مع تقييم تأثير إصلاحات ولي العهد محمد بن سلمان التي تشمل هدف زيادة إعادة تدوير النفايات، التي ينبغي أن تعود بالنفع على الشركة.

وأضاف الصفران مشددا: "لا أرى أي اتجاه سوى الصعود، ستلوح قضايا على طول الطريق، ولكن هذا هو الواقع الجديد، التغيير قادم ويجب أن تكون جزءًا منه، لا يوجد خيار آخر".

التركيز على القطاع الخاص

لقد أصبحت مثل هذه الروايات المتناقضة طبيعية في دولة تشهد تغيرًا جذريًا منذ أن أطلق ولي العهد خطته لتحديث رؤية 2030، بحسب صحيفة التحليل الاقتصادي. وبعد مرور ثلاث سنوات، لا زالت البلاد في حالة تغير مستمر، وبينما يتحدث بعض السعوديين بأمل وتفاؤل، يتهامس البعض الآخر بقلق بشأن مخاوفهم التي اشتدت بسبب القتل المروع للكاتب السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. 

ورأى التقرير أن هذه الآراء المتضاربة تبرز كأكبر اختبار لولي العهد، قبل أن يتساءل: "هل يستطيع القائد الفعلي للمملكة تأمين شراء القطاع الخاص للمساعدة في إعادة تنشيط الاقتصاد وتوليد الوظائف اللازمة للحد من بطالة الشباب المتفشية؟".

منذ البداية، بحسب الصحيفة، "ركزت خطط الشاب البالغ من العمر 33 عامًا (ولي العهد) على دور القطاع الخاص، وشملت أهداف رؤية 2030 زيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 40 في المائة إلى 65 في المائة. كما حددت الحكومة أيضًا الهدف المتمثل في توفير 450 ألف وظيفة غير حكومية بحلول عام 2020، في سبيل خفض البطالة السعودية، التي تبلغ حالياً 12.5 في المائة، ومحاولة تقليصها إلى 9 في المائة العام المقبل. وقال أحد المسؤولين الغربيين لـ"فاينانشال تايمز"، "لا يمكن تحقيق هذه الأهداف من دون القطاع الخاص".

واعتبر التقرير أن الشركات السعودية هي التي تحملت وطأة التغييرات الشاملة لمحمد بن سلمان، إذ أثرت التخفيضات الهائلة في دعم الطاقة، بالإضافة إلى إدخال ضريبة القيمة المضافة، على إنفاق الأسر. وبعد انخفاض أسعار النفط في عام 2014، لم يتم سداد عشرات المليارات من الدولارات من العقود الحكومية. كما ساهمت الزيادات الكبيرة في الضرائب على العمال الأجانب -الذين شغلوا حوالي 90 في المائة من وظائف القطاع الخاص- في زيادة التكاليف المرتفعة وهبوط الأرباح، مما أدى إلى هجرة جماعية للمغتربين. كما أدى انخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية إلى نوع من الانكماش الاقتصادي.

ومن جهته أوضح مسؤول تنفيذي أجنبي للصحيفة، أن "هناك حوالي 7000 شركة صناعية في المملكة العربية السعودية، الكثير منهم يخسرون المال أو بالكاد يحققون أرباحًا". وما زال البعض يترنح إثر حملة الأمير المزعومة لمكافحة الفساد، التي اعتقلت أكثر من 300 من الأمراء ورجال الأعمال والموظفين السابقين في الدولة في فندق "ريتز كارلتون" في الرياض في أواخر عام 2017.

وكانت نتيجة ذلك، زاد التقرير، ادخار كثيرين من القطاع الخاص لأموالهم أو القيام بتأمينها في الخارج، بينما يبحث صندوق الاستثمارات العام عن عقد صفقات جديدة وشركاء أجانب، بعد أن أعلن عن مشاريع بقيمة مئات المليارات من الدولارات في الداخل وإنشاء شركات جديدة.

وأفاد التقرير بأن بن سلمان كان مصمماً على تطوير قطاع خاص جديد باستخدام أدوات الدولة، ولا سيما صندوق الاستثمار، وتهميش الشركات التقليدية التي كان ينظر إليها بازدراء بسبب استفادتها من عقود الدولة والعمالة الأجنبية الرخيصة، هذا ما قاله أشخاص مطلعون على الديوان الملكي لـ"فاينانشال تايمز". 

مقتل خاشقجي قلب الموازين

وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الحسابات ربما بدأت تتغير في أعقاب مقتل خاشقجي في إسطنبول، فقد دعت الحادثة العديد من المستثمرين الأجانب الذين سعى بن سلمان لجذبهم إلى التفكير مرتين في المخاطر السياسية للاستثمار في أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، مما دفع الحكومة للتركيز بشكل جديد على مغازلة الشركات السعودية. وزاد التقرير نقلا عن مسؤول تنفيذي أجنبي: "لقد أصبح القطاع الخاص الداخلي محترمًا الآن، بعد أن كانوا مُحتقَرين". حتى أن البلاط الملكي بادر إلى إنشاء مجموعة "واتساب" ضمت الأمير محمد والوزراء وكبار المسؤولين الآخرين وكبار القادة الصناعيين لتحسين الاتصالات بين الموجودين داخل القيادة وخارجها، بحسب الصحيفة.

وقال مصرفي سعودي بارز لـ"فاينانشال تايمز"، إنه "كان من الطبيعي وجود حالة الشك وانعدام اليقين في الرؤية لدى البعض لكن في الأشهر القليلة الماضية، شهدنا تغييراً كبيراً في المعنويات". ومثل مؤيدي الإصلاح الآخرين، أضاف المتحدث: "لا مفر من الأخطاء". وهذا المصطلح، بحسب التقرير، أصبح تعبيرًا ملطفًا لوصف أي شيء يمكن اعتباره سلبيًا، من قتل خاشقجي إلى خلاف دبلوماسي مع كندا والطريقة التي تم التعامل بها مع معتقلي الريتز.

واعتبرت الصحيفة البريطانية، أن الحكومة تحاول بشكل يائس وضع مقتل خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول -الذي خلصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى أنه تم تدبيره من قبل بن سلمان- وراءها، واستعادة التركيز على الاقتصاد. وكان هذا الأمر مدعومًا بالطلب الكبير على إصدار سندات لأول مرة بقيمة 12 مليار دولار من قبل "أرامكو" السعودية في أبريل/ نيسان، وما زال المسؤولون مصرين على أن طرح شركة النفط الحكومية الذي تأخر كثيرًا سيكون في عام 2021.

وأفاد التقرير بأن المملكة  تواصل جذب الاستثمارات في القطاعات التقليدية، لا سيما النفط والبتروكيماويات، وقد أعلنت شركة "اينيوس"، وهي مجموعة بريطانية خاصة، هذا الشهر أنها ستنفق ملياري دولار لبناء ثلاثة مصانع كيماويات في البلاد. كما أبدى كبار المصرفيين أيضًا استعدادًا للمضي قدماً، بعد تعرضهم للإغراء من خلال الوعد بمزيد من الصفقات بمليارات الدولارات.

وتابع التقرير، "كان لاري فينك  المدير التنفيذي لشركة (بلاك روك)، وجون فلينت المدير التنفيذي في HSBC، من بين كبار المصرفيين الغربيين الذين شاركوا مع وزراء سعوديين في مؤتمر مالي بالرياض في أبريل/ نيسان، ثم قاطعوا -مع آخرين- مؤتمر الاستثمار الرائد لصندوق الاستثمارات العامة بعد مقتل خاشقجي".

ولكن في القطاعات الأخرى التي ستكون مصيرية لإنجاح جهود التنويع، يظل المستثمرون حذرين، إذ قال أحد الخبراء للصحيفة: "الكثير من الناس يرغبون في الاستثمار، لكنهم يشعرون بخيبة أمل". وأضاف "كان الجميع ينتظر كيف ومتى وأين، ثم وقعت حادثة خاشقجي". وفي غيابهم، أصبحت الرياض أكثر اعتماداً على المستثمرين المحليين لدعم خططها، بحسب التقرير.

ويصر وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، بحسب الصحيفة، على أن كل شيء يسير على الطريق الصحيح، قائلاً: إن "هناك تحالفاً غير مسبوق بين الحكومة والقطاع الخاص". ومع أن بعض الشركات لا تزال تشكوا من عدم السداد، لكن الجدعان يقول، إن الحكومة سددت متأخرات قدرها 160 مليار ريال سعودي (43 مليار دولار) للشركات على مدار العامين الماضيين وتدين فقط بحوالي 9 مليارات ريال سعودي، بعضها متنازع عليه. 

ونقل التقرير تصريحات الجدعان الذي قال: إن "الإصلاحات جلبت الألم، لكن الشركات الديناميكية تزدهر"، معتبرا أنه، "عندما تدخل في عملية إصلاح حقيقية لاقتصادك سيكون هناك ألم، وقد تم إيصال هذه الرسالة بوضوح تام للقطاع الخاص، إنهم بحاجة إلى إعادة هيكلة أعمالهم لواقع جديد".

الرابحون والخاسرون

وأشار صندوق النقد الدولي الشهر الماضي بالإصلاحات الاقتصادية، قائلا إنها "بدأت تسفر عن نتائج إيجابية"، ولفت إلى تحسن في النمو غير النفطي والزيادة في مشاركة النساء في القوى العاملة وفرص العمل فيها. الصحيفة المتخصصة في الاقتصاد، وصفت هذا التقدم بـ"الهش"، وقالت إنه يعتمد على أسعار النفط والإنفاق الحكومي -على الرغم من أن رؤية 2030 تتمثل في تقليص دور الدولة وإضعاف إدمان المملكة على البترودولار.

وبالأرقام أوضحت الصحيفة أن، الناتج المحلي الإجمالي نمى بنسبة 3.6 في المائة في الربع الأخير من عام 2018، محققا أسرع وتيرة له في ثلاث سنوات، ولكنه كان مدفوعًا بشكل كبير بقطاع النفط، في حين نما الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الخاص غير النفطي بنسبة 1.96 في المائة فقط. 

وأفادت أنه بشكل عام، حقق الاقتصاد نموا بنسبة 2.2 في المائة العام الماضي بعد الركود في عام 2017، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يتباطأ النمو قليلاً هذا العام إلى 1.9 في المائة، لكنه يشير إلى أن النمو غير النفطي سيرتفع إلى 2.9 في المائة معتمدا على الإنفاق الحكومي العالي. "وعلى أية حال لم تحرز الرياض تقدمًا كبيرًا في الإصلاحات الأخرى مثل برنامج الخصخصة الموعود به، بحسب "فاينانشال تايمز".

وقال أحد المصرفيين السعوديين المتقاعدين للصحيفة: إن "عدم سخط بعض الشركات أو استيائهم لا يتعلق بالإصلاح نفسه، ولكن بخطى الإصلاح (المالي) وتأخر الإصلاح الاقتصادي". متسائلا: "كم عدد مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟ يمكنك عدهم على يديك. كم عدد عمليات الخصخصة التي تمت؟ تقريبا لا شيء". 

واعتبر التقرير أن هناك رابحين وخاسرين يخرجون من هذه العملية، وذهب إلى حد التوضيح، بأن "مجموعة بن لادن، التي كانت لسنوات المقاول المفضل لحكّام السعودية، قد تضررت من التراجع بعد انخفاض أسعار النفط، وشهدت حملة القمع اعتقال رئيسها في فندق ريتز، وأخذت الحكومة حصة من الشركة". في المقابل، فازت نسما القابضة، وهي شركة عمومية أسسها صالح التركي، الذي أصبح رئيس بلدية جدة العام الماضي، بسلسلة من العقود من الحكومة، كما قال السكان المحليون للصحيفة.

الجميع يخاف استبداده

وأفادت الصحيفة البريطانية، بأن "التناقضات في جدة، العاصمة التجارية التي تضم العديد من العائلات التجارية البارزة، أكثر وضوحا بسبب السياسات  التي أحدثها حكم ولي العهد". وقال أحد أفراد عائلة ثرية -كان لديه اثنان من أقاربه في حملة الريتز- لـ"فاينانشال تايمز: إن "الاستثمارات سيئة للغاية، وهناك الكثير من التعديلات؛ العقارات تضررت من عدة زوايا، والعدد الهائل من المغتربين الذين غادروا خلق فراغا، ثم تجد الرياض تمتص جميع الناس ذوي الكفاءة العالية". لكنه مع ذلك لا يزال يدعم الإصلاحات، معتبراً أن النموذج الاقتصادي القديم والدور الأبوي للدولة والمحسوبية، كانت منهجية غير مستدامة. 

وتحدث رجال أعمال شبان آخرون للصحيفة، عن الفرص المتاحة في قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا والترفيه، مشيدين بالتغييرات التي سمحت للنساء بالقيادة واقتحام المجالات التي كانت حكرا في السابق على الرجال، وأن بعض المطاعم لم تعد تفصل بين الرجال والنساء غير المتزوجين.

وأفادت "فاينانشال تايمز" بأنه حتى أولئك المتحمسين لولي العهد وطريقته في القيادة التي لا يمكن التنبؤ بها، يعترفون بأن المملكة كانت في أمس الحاجة إلى الإصلاح لضمان الاستقرار في بلد 70 في المئة من سكانه دون سن 35 عاماً، وتبلغ بطالة الشباب أكثر من 30 في المائة، مشددين على أن "أسلوبه الاستبدادي هو الذي يثير الخوف". 

وقال التقرير، إن هذه المشاعر واضحة بين رجال الأعمال في جدة، التي تقع في منطقة الحجاز الغربية وتبعد بمسافة سياسية وجغرافية من مركز القوة الأكثر محافظة في الرياض. فقد كان الحجازيون كُثُرا بين الذين تم القبض عليهم في فندق ريتز كارلتون. ونقلت الصحيفة عن مسؤول تنفيذي سعودي في المدينة، قوله: "ليس فقط الأشخاص في فندق ريتز، ولكن أيضًا أولئك الذين كانوا يقدمون سلاسل التوريد (شبكة بين الشركة ومورديها لإنتاج وتوزيع منتج معين) الخاصة بهم، لم يتم دفع رواتبهم". وقد تم إطلاق سراح معظم المعتقلين بعد تحويلهم أموالاً وأصولاً إلى الدولة، لكن المشكلة الأكبر الآن، بحسب الصحيفة، هي الثقة، كما يقول بعض الخبراء.

وقال أحد رجال الأعمال في جدة لـ"فاينانشال تايمز": "لا توجد تجارة إلا في الرياض، الناس في فقر وليست هناك مساءلة". ويتهم كثيرون صندوق الاستثمارات العامة بـ "تبديد أموال الدولة". وأوضحت الصحيفة أن دور صندوق الثروات السيادية البالغ 300 مليار دولار مثير للجدل، إذ يرى البعض أنه ضروري لاحتضان وتطوير قطاعات جديدة؛ بينما يرى آخرون أنه أداة شخصية لولي العهد لضرب القطاع الخاص. وقد حذر صندوق النقد الدولي من أن التدخلات الحكومية "يجب معالجتها بعناية"، مشيرا إلى "الدور المتزايد" لصندوق الاستثمارات العامة. 

وخلص تقرير الصحيفة المتخصصة في الاقتصاد، إلى أن "ولي العهد توهم بأن رأسمالية الدولة ستدفع الاقتصاد كما هو الحال في الصين أو كوريا الجنوبية، وأن صندوق الاستثمار سيقود عملية الرأسملة، ولكن هذا المنظور غير صحيح، فالقطاع الخاص تعرض لوهن شديد بسبب عدم ثقته ببن سلمان". واستندت على قول مسؤول تنفيذي في السعودية، قال: إنه "لا يمكنك أن تتوقع منهم أن يكونوا معك إذا قمت بابتزازهم، الأمر كله يتعلق بالتحكم، فهو يريد التحكم في أدوات الاقتصاد".

وقال أحد الخبراء الغربيين لفاينانشال: "تحتاج إلى ما بين 12 و18 شهرًا بدون ارتكاب حماقات، مع وجود بعض المؤشرات الجيدة قبل أن يبدأ (الاقتصاد) في الحركة حقًا. لكني عندما أتحدث إلى القطاع الخاص، ما زلت أسمع الكثير من الشكوك".