آخرهم الساروت.. كيف واجه مبدعون عرب الاستبداد بفنهم ودمائهم؟

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة"، كلمات قالها المفكر الإسلامي سيد قطب تلخص تاريخ حياته وخلاصة فكره، كما تلخص حياة كثير من الفنانين والمبدعين، آخرهم منشد الثورة السورية و"حارسها" عبد الباسط الساروت.

الساروت بعد اضطراره للخروج من حمص وريفها في مايو/آيار 2014، اختاره الله شهيدًا السبت 8 يونيو/حزيران 2019، بعد إصابة شديدة في المعارك المستمرة في ريف حماة، فهو لم يكتف بفنه وإبداعه بل فضّل البقاء في منطقة حرب ملتهبة شمال غربي سوريا.

الساروت، والمنشد المصري محمد بيومي صاحب أغنية "ثورة دي ولا انقلاب" الذي استشهد عقب انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، والسوري: إبراهيم قاشوش وآخرون على امتداد ثورات الربيع العربي، كانوا وسيبقون نماذج مضيئة ترجمت كلماتها لأفعال ثورية لامست الأرض بحثا عن الحرية والعدل والكرامة.

جنة يا وطنا

كان عمر الساروت يقارب العشرين عاما فقط عندما بدأت إرهاصات الثورة السورية في 17 فبراير/ شباط 2011، فهو من مواليد حمص عام 1992، عرف قبل الثورة كحارس مرمى منتخب سوريا للناشئين ونادي "شباب الكرامة" لذلك نال لقب "حارس" الثورة.

كونه واحدا من المهجرين من الجولان المحتلة مع أسرته ظل مشهد التهجير ماثلا في ذهن الساروت، مؤثرا على روحه، فتقدم الصفوف السلمية وقاد المظاهرات في أحياء حمص، وتغنى المتظاهرون بأغنياته الثورية.

بعد استشهاد الفنان إبراهيم القاشوش في 2011، حاز الساروت على لقب "بلبل الثورة" الجديد بأنشودته "جنة .. جنة يا وطنا"، وجهوده الشاقة في قيادة الثوار وتحميسهم ما اضطره للهروب في حمص من حي إلى آخر.

وفي العام الثالث للثورة أنتج الساروت فيلم "الطريق إلى حمص"، راويا مسيرته من السلمية حتى حمله السلاح، وبقائه في أحياء حمص القديمة وصولا به إلى أن يكون قائدا عسكريا مشكّلا كتيبة عرفت بـ"شهداء البياضة"، وفي مايو/آيار من عام 2014، وبعد عامين من الحصار والتجويع، رعت الأمم المتحدة في عملية تهجير فريدة خروجه ضمن الثوار والمدنيين.

في 2015 اشتبكت مجموعته المقاتلة مع فصائل أخرى للمعارضة، وعقب توقف القتال غادر إلى تركيا، بعد أن فقد 4 من إخوته وعددا من أقاربه خلال المعارك ضد النظام السوري، لكنه ما لبث أن عاد لسوريا من جديد، مرددا جملته الشهيرة "عائدون يا حمص".

بعد عودته من تركيا لم يتجه إلى حمص، مترجما عمليا جملته الشهيرة "الثورة لكل السوريين، ليست لحمص فقط"، فذهب إلى ريف حماة الشمالي ضمن صفوف "جيش العزة"، أحد الفصائل المقاتلة ضد النظام.

لم ينس الساروت فنه فأنشد على تلفزيون سوريا قبل رحيله بأسبوع واحد: "سوريا ظلي واقفة رغم الجروح النازفة، لا بد يلفي العيد"، وفي ريف حماة الشمالي تعرض للإصابة في بطنه وقدمه أثناء محاولته إسعاف جرحى، وعلى الفور نقل إلى تركيا للعلاج ليلقى ربه شهيدا السبت الماضي.

ابن حماة

الشهيد ابن حماة إبراهيم قاشوش كان أيضا صاحب صوت عذب، ولقب هو الآخر بـ"بلبل الثورة السورية"، من مواليد 3 سبتمبر/أيلول 1977، ومنذ بداية الثورة السورية قاد المظاهرات مناديا بسقوط نظام بشار، ومن أبرزها "ياللا ارحل يا بشار"، ورغم أن قاشوش لم يشارك في العمل المسلح ضد النظام، إلا أن شبيحته لم يتركوه.

عقب جمعة "ارحل" الموجهة لبشار في الأول من يوليو/تموز 2011، والذي تم تقدير المشاركين فيها بنصف مليون ثائر، وإنشاد قاشوش "ياللا ارحل ...." في ساحة العاصي من حماة، استطاع شبيحة بشار الوصول لقاشوش، بعد خروجه إلى العمل صبيحة الأحد 3 يوليو/تموز 2011، ليذبحوه وينتزعوا حنجرته ويلقوه في نهر العاصي.

خلد الثوار ذكرى قاشوش على مواقع ترصد شهداء الثورة السورية، ومواقع التواصل الاجتماعي، لاحقا وفي عام 2016 حاول النظام السوري تبرئة ساحته بزعم أن قاشوش حي لم يستشهد، كما نفى بشار بنفسه معرفته.

موقع "العربي الجديد" قال في 20 مايو/آيار 2017: "من الممكن بالتحليل الوصول لأدلة منطقية، تبرهن أن الخبر الأخير الذي يدعي أن منشد الثورة السورية، إبراهيم القاشوش، لا يزال حياً، هو خبر من تلفيق النظام".

قبلها بأشهر قليلة وفي 29 من ديسمبر/كانون الأول 2016 أكد موقع "عربي 21" كذب موقع مجلة "جي كيو" البريطانية المروج للخبر الكاذب عن طريق مصادر له من الناشطين أكدوا أن النظام السوري اعتقد أن القاشوش هو بلبل الثورة بالفعل فقتله بهذه الطريقة البشعة.

"ثورة دي ولا انقلاب"

استشهاد القاشوش بهذه الطريقة البشعة أسلوب قاسٍ اتبعه النظام الانقلابي المصري في 2013 مع واحد من أبرز الفنانين الداعمين للثورة، وهو المنشد محمد بيومي الذي استشهد في أحداث جمعة 16 أغسطس/آب 2013، عقب يومين من فقط من فض ميداني رابعة والنهضة، حيث كانت أنشودته "ثورة دي ولا انقلاب؟" تصدح على منصتيهما.

في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 استشهد الشاعر اليمني نايف الجماعي في مواجهات مع الحوثيين في مديرية دمت بمحافظة إب (غرب)، وهو قيادي في حزب الإصلاح، قاد المقاومة في مديرية بعدان ضد الميليشات.

سبق أن قام الحوثيون بتفجير منزلين لـ"الجماعي" أملا في التخلص منه، كونه أحد الشعراء المشهورين بقصائدهم الشعبية المقاومة منذ بداية الثورة اليمنية في فبراير/شباط 2011، والتي تغنى بها منشدون أبرزهم جميل القاضي وفوزي عصام في "الشرف والتحية للجنود البواسل".

أغلب شعر "الجماعي" كان حماسيا ويحض على القتال والدفاع والاستعداد لمواجهة العدو سواء في الداخل باليمن أو العدو الصهيوني في إسرائيل.

أما الفنان اليمني مشتاق العماوي فاستشهد أيضا محاربا الحوثيين في 31 يوليو/تموز 2017، إثر استهدافه من قناص في تعز (غرب)، حيث اشتهر الراحل برسوماته خاصة البورتريهات ومشاهد الحرب، وعندما التحق بالمقاومة الشعبية ترجم العماوي رسوماته لواقع مدافعا عن تعز ضد الحوثيين.

ثورة الياسمين التونسية نتجت عن اضطهاد وقمع شديد للحريات طالت كل فئات الشعب، ومن هؤلاء مغني الراب حمادة بن عمر في أغنيته "رايس (رئيس) البلاد"، التي أطلقها في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أي قبل الثورة بأسابيع قليلة وعاب فيها القهر والاستبداد على يد نظام زين العابدين بن علي، وتم منعها من مواقع التواصل، واعتقال صاحبها لأيام، ومع ضغوط أجنبية تم إخلاء سبيله.

لاحقا وبعد نجاح الثورة ترنم بن عمر بالحرية في أغنية بعنوان "تحيا تونس" مناديا بالعدالة للجميع، لكن يحسب للثورة التونسية أنها لم تشهد قتل فنانين أو مبدعين كما هو الحال في مصر وسوريا واليمن.

مرآة حقيقية

الفنان والممثل المصري أيمن الباجوري يقول لـ "الاستقلال": "الفنان في الأصل صاحب دور وقضية جوهرية في الحياة، ويكفي أن ما نقدمه من مسلسلات أو أفلام مثلا أكثر تأثيرا من الوعظ والإرشاد".

ويضيف: "المادة المسموعة أكثر تأثيرا، أعمال الشهداء: المصري: محمد بيومي والسوريين: إبراهيم القاشوش وعبد الباسط الساروت، باقية حتى اليوم، فالفنانون الحقيقيون ينيرون الدرب للشعوب ضد الظلمة والطغاة والاستبدادين، ويأخذون بأيديهم نحو الثورة، ومع اتساع وسائل الإعلام ووسائل التواصل صارت الجماهير لديها وعي بشكل أكبر".

الفنان والمنشد تامر عبد الشافي يقول لـ "الاستقلال": "من الطبيعي والمفترض أن الفن مرآة حقيقية للشعوب، ومعبرا عن آلامها وآمالها ورغبتها في التحرر من الطغاة، وللأسف فإن الأنظمة المستبدة تشتري ذمم أصحاب المواهب للترويج لسلعتها الفاسدة ومحاولة إقرار وشرعنة دولابها الفاسد، وبالتالي فهؤلاء ليسوا فنانين بل باعة استغنوا عن ذممهم وكرامتهم وأعراضهم من أجل عرض قليل من الدنيا".

ويضيف: "وعلى الجانب المضيء يقف أمثال المنشدين محمد بيومي، إبراهيم القاشوش، وعبد الباسط الساروت كأصحاب فن حقيقيين يدافعون عن حق الشعوب في الحياة أمام الظلمة، وهم من محترمي شعوبهم وقبلها ذواتهم، وحين يموتون سيقفون أمام رب العزة فخورين بكونهم أصحاب حق دافعوا عن شعوبهم، ويذكرهم التاريخ إلى جوار عمر مكرم، عمر المختار، وغيرهم من الثوار على امتداد الوطن العربي".