"جزيرة محايدة وسط بحر مناهض".. ما سر موقف النمسا من روسيا؟

قسم الترجمة | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

أكدت صحيفة إسبانية أنه رغم تعاظم شدة الاستقطاب السياسي والعسكري في العالم وأوروبا على وجه الخصوص، تحافظ النمسا، حكومة ومعارضة وشعبا، على موقفها المحايد إزاء روسيا والكتلة الغربية، المتواصل منذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وأرجعت صحيفة "الكونفدنسيال"، هذا التوجه، إلى الموقع الجغرافي الذي تتمتع به النمسا، فهي جزيرة وسط بحر أوروبي، لا تربطها حدود مباشرة مع روسيا، وكل جيرانها أعضاء بحلف شمال الأطلسي "ناتو"، لذا لا تهديد يدفعها لتغيير نهجها.

حقائق جديدة

وكشفت الصحيفة أن استطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من 70 بالمئة من النمساويين يرفضون الانضمام إلى الناتو، في إشارة إلى أن الحياد لا يزال يمثل أولوية في هذا البلد. 

وذكرت بتصريحات وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، في 24 فبراير/ شباط 2022، يوم بدء التدخل الروسي في أوكرانيا، عندما قالت إن "العالم أصبح يعيش حقيقة مختلفة".

وعلقت الصحيفة بالقول: "في الحقيقة، بعد أشهر، لا تبدو هذه العبارات مبالغا فيها".

وفي ظل "هذا العالم المختلف" أصبح الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من الجمود، يعمل على القضاء تماما على اعتماده على الغاز الروسي.

وبدأت ألمانيا المسالمة في إعادة بناء جيشها، وبادرت الدنمارك بالعودة إلى سياسة الدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، فإن المنعطف الذي لم يسبق له مثيل يختزل في قرار السويد وفنلندا الانضمام إلى الناتو، وهما دولتان يقف وراءهما عقود من الحياد.

لكن هذا العالم المختلف لا يشمل بلدانا أخرى، والتي يبدو أن مبدأ الحياد ثابت في جيناتها السياسية.

في الواقع، هذا هو حال النمسا، وهي دولة لا تزال فيها مسألة الانضمام إلى حلف الناتو من المحرمات عمليا.

ومن هنا، تظهر جميع استطلاعات الرأي الأخيرة أن أكثر من 70 بالمئة من المواطنين النمساويين يرفضون هذه الخطوة. 

في السياق ذاته، أكد وزير خارجية النمسا، كارل نهامر، مؤخرا، أن الحياد "ليس موضع نقاش".

وتكرر الزعيمة الرئيسة للمعارضة، باميلا ريندي فاغنر، كلما استطاعت، أن الموقف النمساوي المحايد "غير قابل للتفاوض".

وحتى الآن، لا يوجد حزب سياسي واحد ذو أهمية في الدولة الواقعة في أوروبا الوسطى يدعو للانضمام إلى الناتو.

وعدم الانحياز يحظى بشعبية كبيرة في النمسا، إلى درجة أنه لا يوجد سياسي واحد يريد أن يكون الشخص الذي يفتح هذا الجدل. لذلك، يستمر الحياد في الظهور عبر الطيف الأيديولوجي للبلاد.

واقع مختلف

ونقلت الصحيفة الإسبانية عن الأمين العام للجمعية النمساوية للسياسة الأوروبية بول شميت، قوله إنه "على غرار الرأي العام، لا يريد السياسيون طرح الموضوع، ومع ذلك، هذا لا يعني أن النقاش حول هذه المسألة قد دفن".

ففي الآونة الأخيرة، قامت مجموعة من 50 شخصية نمساوية بارزة، بما في ذلك خبراء أعمال وعسكريون وسياسيون وأكاديميون ونشطاء المجتمع المدني، بإثارة القضية علنا.

وفي رسالة مفتوحة، دعا الرئيس الفيدرالي، ألكسندر فان دير بيلن، إلى فحص ما إذا كانت سياسة الحياد التي تتبعها البلاد مواكبة ومناسبة للعصر. 

وأوضحت الصحيفة أن أحد العوامل الرئيسة التي تميز الحياد الحديدي في النمسا عن التحول الأخير في موقف السويد أو فنلندا يختزل في الواقع الجغرافي المختلف للبلاد.

فتقاسم أكثر من 1300 كيلومتر من الحدود مع روسيا يختلف عن حقيقة أن النمسا تقع في وسط أوروبا وتحيط بها أعضاء الناتو بالكامل تقريبا.

لهذا السبب، لا يتعين على فيينا الانضمام إلى أي تحالف عسكري للاستفادة من بند المساعدة المتبادلة في حالة الحرب؛ لأنه لغزو الأراضي النمساوية سيتعين على أي جيش غاز أولا مهاجمة أحد أعضاء الحلف.

في هذا السياق، يقول شميت: "كنا نشعر بارتياح حتى الآن، لأنه وكأننا جزيرة من الحياد". 

ويحذر المحلل قائلا: "يتمثل السؤال في كيفية تعريف مفهوم الحياد اليوم في عالم تغير كثيرا منذ 24 فبراير. في الحقيقة، تعتقد السياسة النمساوية أنها لا يمكن أن تخسر إلا إذا قامت بتفعيل هذا النقاش في الوقت الحالي، ولكنه نقاش ضروري".

في الواقع، يعد الحياد النمساوي متجذرا بعمق في الذاكرة الجماعية لمواطنيها.

فمثل ما حدث بألمانيا، احتلت قوات الحلفاء البلاد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتم تقسيمها إلى أربع مناطق احتلال، تسيطر عليها فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

خلال فترة التقسيم التي دامت عقدا من الزمن، كانت الأولوية السياسية المطلقة للأحزاب السياسية الرئيسة، وللشعب، متمثلة في استعادة السيادة الكاملة.

وبعد وفاة الزعيم السوفيتي يوسف ستالين، ذهبت عدة وفود نمساوية إلى موسكو في عامي 1954 و1955 للتفاوض على إنهاء الاحتلال.

وعلى الرغم من أنه تبين لاحقا أن الاتحاد السوفيتي بقيادة نيكيتا خروتشوف قد قرر بالفعل بمفرده عرض السيادة على النمسا مقابل الحياد، إلا أنه بالنسبة للمفاوضين الذين حصلوا على هذه الصفقة، كان ذلك أعظم نجاح يمكن تحصيله. 

وحتى اليوم، يرتبط الحياد في البلاد باستعادة الحرية وبفكرة أن الدبلوماسية الذكية مع روسيا منعت إقامة "جدار فيينا" على غرار جدار برلين.

وفي هذا السياق، يقول شميت: "في النمسا، هناك علاقة عاطفية مع الحياد. بالنسبة للكثيرين، هذا جزء من هوية البلد".

علاقة مفيدة

وأشارت الصحيفة الإسبانية إلى أن قانون الحياد النمساوي لعام 1955 يستند إلى ثلاث ركائز: رفض أي انضمام إلى تحالف عسكري، وحظر نشر القوات بشكل دائم في الخارج، وحظر المشاركة في حروب خارجية؛ وهو التزام منصوص عليه في دستور البلاد. 

لكن، لعقود من الزمان قلصت النمسا أكبر قدر ممكن من موقفها المحايد.

فأصبحت فيينا موطنا للمقر الثالث للأمم المتحدة (بعد نيويورك وجنيف)، وكذلك المقر الرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية ونفس الشيء بالنسبة لأمانات منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، إلى جانب العديد من المنظمات الأخرى. 

وإلى جانب تحويل عاصمتها إلى خليط من المنظمات الدولية، خدم الحياد النمساوي البلاد أيضا لفترة طويلة لحماية نفسها من النقد بسبب علاقتها الوثيقة مع روسيا.

فبعد ضم فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014، كانت النمسا أول دولة غربية تستقبل زيارة من الرئيس الروسي.

ورغم بعض الانتقادات، ظلت العلاقات الاقتصادية قوية كما كانت دائما.

عموما، تعد موسكو ثاني أكبر مستثمر أجنبي في النمسا، بعد ألمانيا فقط، بمساهمات تزيد عن 20 مليار يورو في عام 2020.

وبعد ثلاثة أشهر من بدء الغزو الروسي الحالي لأوكرانيا، لا يزال 80 بالمئة من الغاز المستهلك في البلاد يأتي من الأراضي الروسية. 

لكن كما هو الحال في ألمانيا، أدى استيقاظ النمسا على قرار بوتين بشن حرب على أوكرانيا إلى إلقاء الضوء على إحراج قربها من روسيا.

يقول شميت: "تنتقد وسائل الإعلام النمساوية بشدة السياسيين الذين لم يعرفوا أبدا كيف يقرؤون خطط بوتين والذين كانوا دائما يبحثون عن علاقة وثيقة مع الرئيس الروسي بطريقة مبالغ فيها".

والعديد من الخبراء، في ظل التطورات الحالية أعقاب الحرب في أوكرانيا، يشيرون إلى أن الحياد النمساوي المفترض قد عفا عليه الزمن منذ فترة طويلة على الساحة الدولية.

ولكونها دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، أصبحت السياسة الخارجية النمساوية، التي يفترض أنها مستقلة، محدودة للغاية. 

وفي هذا المعنى، جرى، دمج البلد أيضا في السياسة الأمنية المشتركة للاتحاد، والتي، على الرغم من أنها تضع استثناءات معينة للدول المحايدة، لا تزال تشير إلى التزام بالدعم العسكري في حالة وقوع هجوم على أي من الدول السبع والعشرين.

ومثل باقي دول الاتحاد الأوروبي، أدانت النمسا بشدة تصرفات روسيا وفرضت عليها عقوبات. 

على المدى القصير، من الواضح أن خيار الانضمام إلى الناتو ليس مطروحا على الطاولة النمساوية، لكن احتمال أكبر أزمة جيوسياسية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا يستثني أحدا.

وفي ظل هذا الوضع، مثل معظم شركائها الأوروبيين، اضطرت النمسا إلى الإعلان عن زيادة كبيرة في ميزانيتها العسكرية الضئيلة.

وختمت الصحيفة الإسبانية بالتأكيد، "عموما، سيتعين على النمسا، عاجلا أم آجلا، إعادة تقييم حيادها المقدس".