جنرالات وانتقالات وتنازلات

ادريس ربوح | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ الانتفاضة الشعبية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1988، التي هزت نظام الحزب الواحد في الجزائر، ودخول البلاد في التعددية السياسية وبداية تَلمُس الطريق نحو انتقال ديمقراطي يواكب التحولات التي شهدها المجتمع الجزائري والتطورات الدولية التي صاحبت انهيار النظام الدولي ذي القطبين ليخلفه نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. تدخّل الجيش الجزائري وكعادته منذ الاستقلال في ترتيب الأوضاع السياسية، وقد بدأ ذلك بانسحاب ضباطه من عضوية اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني للسماح للحزب بالتحول إلى حزب كبقية الأحزاب التي أفرزها دستور فيفري (فبراير/ شباط) 1989.

إلا أن تعثر التجربة الديمقراطية الوليدة وإلغاء نتائج الدور الأول لإنتخابات ديسمبر/ كانون الأول 1991، وتوقيف المسار الانتخابي أعاد من جديد الجيش إلى الواجهة، وذلك عن طريق انقلاب عسكري وفرت له جميع عناصر الفراغ الدستوري؛ وذلك بتزامن حل البرلمان وإقالة-استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد. 

خلف الرئيس المستقيل، المجلس الأعلى للدولة وقد حرص قائد الانقلابيين الجنرال خالد نزار، على أن يكون عضوا فيه بمعية شخصيات ثورية جهادية، يقودهم محمد بوضياف للاغتراف مجددا من الشرعية الثورية التي حَكمت بها الجزائر منذ 1962؛ في مقابل الشرعية الشعبية التي كانت تمثلها الجبهات الثلاثة الفائزة في الانتخابات التشريعية الملغاة وهي: الجبهة الإسلامية للانقاذ وجبهة القوى الاشتراكية وجبهة التحرير الوطني، التي كانت تقودها هي الأخرى شخصيات جهادية من الرعيل الأول للثورة الجزائرية. 

ومنذ جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1992 وإلى غاية فيفري (فبراير/ شباط) 2019 عاشت الجزائر ثلاث تجارب مختلفة لتدخل الجيش في الحياة السياسية؛ ارتبطت ارتباطا وثيقا بجملة من العناصر التي حكمت سلوك قيادة المؤسسة العسكرية في التعامل مع الأوضاع وهي:

  • مستوى تورط الجيش وطريقة تعامله مع الانتفاضات الشعبية المختلفة؛ أكتوبر 1988، جوان (يونيو/ حزيران) 1991، جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1992، فيفري (فبراير/ شباط) 2019.
  • مستوى الاحترافية والمؤسساتية للجيش في كل مرحلة من مراحل التجربة الديمقراطية وعلاقة ذلك بمسار الانتقال الديمقراطي. 
  • آليات اتخاذ القرار داخل الجيش؛ هل هي آليات ديمقراطية تشاورية أم آليات تخضع لمنطق الرجل الواحد وأوامر الأكثر رتبة أو الأكثر تموقعا وفق قاعدة المنصب يلغي الرتبة؟
  • الانسجام بين الفريق القيادي للجيش وتأثير التاريخ والتكوين العسكري لكل ضابط من ضباط الجيش.     

يمكننا وفق هذه العناصر معرفة وفهم تجارب الجيش مع عملية الانتقال الديمقراطي، التي تشارف على استكمال عامها الثلاثين دون الوصول إلى تحول ديمقراطي حقيقي في البلاد. كما يمكننا تقييم القرارات التي تم اتخاذها في كل مرحلة وحجم التنازلات التي قدمتها المؤسسة أو الجنرال الأقوى فيها.

الجنرال خالد نزار وسياسة الكل أمني

ينتمي الجنرال خالد نزار إلى مجموعة جنود وضباط الجيش الفرنسي الملتحقين بجيش التحرير الوطني بعد اندلاع الثورة بسنوات ليواصلوا بعد الاستقلال مسارهم العسكري داخل وحدات الجيش الشعبي الوطني، حيث استعان بهم العقيد هواري بومدين رئيس أركان الجيش وقائد انقلاب 1965، بغرض المساهمة في بناء جيش وطني محترف ليتحول هذا الدور فيما بعد إلى بروز تكتل قوي لهؤلاء الضباط توج بسيطرتهم على السلطة في انقلاب جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1992.

إذ كانوا يسيطرون على أهم المسؤوليات العسكرية والأمنية داخل الجيش بل أفتك الجنرال خالد نزار  منصب وزير الدفاع الوطني، الذي كان عادة من نصيب رئيس الجمهورية وهذا ما يبرز حجم النجاح السياسي الذي حققته هذه المجموعة في الوصول إلى رأس هرم المؤسسة العسكرية، قبل أن يتم إزاحة الشادلي بن جديد من رئاسة الجمهورية بعد توقيف المسار الانتخابي وإنشاء المجلس الأعلى للدولة. 

وقد حرص خالد نزار أن يكون ضمن أعضائه والرجل القوي فيه مع تطعيمه بوجوه سياسية ذات ماضٍ ثوري، وعلى رأسها الرئيس محمد بوضياف، الذي تم استخلافه بعقيد جيش التحرير الوطني علي كافي، وباختيار من خالد نزار دائما الذي برّر ذلك باعتباره قائدا تاريخيا من جهة، وإلى إبعاد كل الأقاويل الممكنة حول سيطرة ضباط الجيش الفرنسي على رئاسة الدولة من جهة أخرى. فمن خلال تصريح خالد نزار لقناة "الشروق الجزائرية"، نستشف أنه كان حريصا على تقديم التنازلات داخل النظام ليحافظ على نفوذه في دوائر صنع القرار. 

وتميزت مرحلة حكم خالد نزار بنسختيها، أي أثناء رئاسة بوضياف ثم كافي بعد اغتيال الأول على المباشر بقصر الثقافة بمدينة عنابة، بغلق كل أبواب الحوار والتنازل مع ممثلي الإرادة الشعبية آنذاك، وهي الجبهات الثلاثة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ، جبهة القوى الإشتراكية، جبهة التحرير الوطني) الفائزة في الدور الأول للانتخابات التشريعية الملغاة في ديسمبر/ كانون الأول 1991.

بل تفضيله رفقة أعضاء المجلس الأعلى للدولة المواجهة مع مناضلي وقيادات الجبهة الإسلامية للانقاذ، التي اختارت شرائح واسعة منها أسلوب العنف لمواجهة الانقلاب وتداعياته مما أعطى المبرر لتعميق سياسة الكل أمني. وقد شملت المواجهة السياسية والمحاصرة الإعلامية بقية الجبهات والقوى السياسية الأخرى؛ التي نادت بضرورة فتح الحوار والسعي لحل سياسي للأزمة.

لكن تغلب في نهاية المطاف الحل الأمني، الذي ازداد تجذرا وتطرفا بعد تصريح رضا مالك عضو المجلس الأعلى للدولة عندما قال: "لابد للخوف أن ينتقل للمعسكر الآخر" وشهدت الجزائر بعد ذلك الفترة الأكثر دموية خلال المأساة الوطنية. فالقيادة العسكرية التي كان على رأسها ضباط وجنود الجيش الفرنسي السابقين موحدة الكلمة في فرض رؤيتها للحل، وليس هناك أدنى مجال للنقاش من طرف النخب العسكرية القادمة من مختلف المدارس العسكرية كأشبال الثورة أو الأكاديميات الحربية الجزائرية والدولية.

وقد سعت إلى تعديل ميزان القوى وإدخال حالة من الممارسات الديمقراطية والتشاور بين مختلف الأجيال المكونة للجيش؛ إذ يشير كثير من الباحثين حول الجيش الجزائري بأن الخلفية التكوينية لكل ضابط وصراع الأجيال وغياب أجواء الحوار والديمقراطية، في هذه الفترة ساهم بشكل كبير في اعتماد أساليب خاطئة في مواجهة التمرد المسلح والابتعاد على الحلول السياسية الكفيلة بتطويق التمرد الذي تحول فيما بعد إلى إرهاب أعمى.

ومع الوصول إلى هذا المأزق لم يعد متاحا المواصلة في هاته السياسة التي تعرضت لانتقادات شديدة، فتم الاستعانة بالجنرال المتقاعد اليامين زروال نظرا للقبول والاحترام الذي يحظى به في أوساط المؤسسة العسكرية ليستلم وزارة الدفاع وتبدأ مرحلة جديدة في التعامل مع الأزمة.

الجنرال اليامين زروال وسياسة الرحمة والحوار

في محاولة لافتكاك إدانة للإرهاب الأعمى الذي ضرب الجزائر بعد الأزمة السياسية الناتجة على الانقلاب على الخيار الديمقراطي؛ زار الجنرال اليامين زروال وزير الدفاع الجديد قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المسجونين في السجن العسكري بالبليدة إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل. 

ومع اقتراب نهاية عهدة المرحلة الانتقالية التي يقودها المجلس الأعلى للدولة تكثفت الاتصالات لطرح البديل للمجلس وكان الاتصال بوزير الخارجية الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة، إلا أنه رفض في آخر لحظة بحجة رغبته في الاستفراد بالقرار ودون مشاركة المؤسسة العسكرية له في ذلك، ليتم اختيار وزير الدفاع اليامين زروال ليكون على رأس الدولة في ندوة الوفاق الوطني سنة 1994، وحضرتها الكثير من الأحزاب المجهرية وغابت عنها الأحزاب الكبرى الممثلة للإرادة الشعبية في آخر انتخابات تشريعية سنة 1991 ومحلية سنة 1990.

ونلاحظ دائما أن مجموعة ضباط فرنسا المتحكمة في القرار حريصة أن لا تكون في الواجهة بل وتحرص على استقدام شخصيات ثورية وعسكرية مقبولة عند مجاهدي جيش التحرير وعموم ضباط الجيش الشعبي الوطني حتى لا تصبح هدفا سهلا للجميع، وهو ماتؤكده تصريحات خالد نزار بأنه "يحسب لكل شئ". 

بدأ الجنرال اليامين زروال مساره على رأس الدولة وهو حريص على تفعيل الحوار وقد بدأه مع قادة الجبهة الإسلامية لانقاذ المسجونين وبقية الأحزاب الرئيسية وبالخصوص الفاعلة في المشهد السياسي، التي حاولت أن تعوض الفراغ الذي تركته الجبهات الثلاثة. فبرزت حركة مجتمع السلم كحزب إسلامي محاور يقبل بالحلول التوافقية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية كحزب علماني يمثل اليسار الجهوي.

كما توسع الحوار ليشمل قوى سياسية واجتماعية أخرى ليتوج بندوة الوفاق الوطني سنة 1994، التي غابت عنها كل الأحزاب الفاعلة في هذه المرحلة والمنخرطة في الحوار الوطني؛ وكان المراد من الندوة اختيار رئيس للدولة ليخلف المجلس الأعلى للدولة وسعى الجيش والمجلس لتنصيب عبد العزيز بوتفليقة على رأس الدولة رغم المعارضة لقدومه وبالخصوص من رئيس المجلس علي كافي، الذي رفض المقترح المقدم من طرف الجنرال خالد نزار نظرا لماضي بوتفليقة السيء، عندما كان على رأس وزارة الخارجية، إذ صرح كافي أنه رفضه لأنه متورط في الفساد المالي أثناء تأدية مهامه في الخارجية، كما رُوج كذلك أن بوتفليقة رفض المنصب بحجة عدم استعداده لمشاركة الجيش السلطة معه.

ليتم الاستعانة مجددا بوزير الدفاع الجنرال اليامين زروال لرئاسة الدولة ثم لترشيحه لخوض انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، التي تنافس معه شركاؤه في الحوار الشيخ محفوظ نحناح ممثلا للتيار الإسلامي والدكتور سعيد سعدي ممثلا لتيار اليسار الجهوي ذو المطالب الثقافية الأمازيغية وهما أكبر وأقدم تيارين عارضا النظام منذ الاستقلال. 

حرص الرئيس الجنرال اليامين زروال على توسيع الحوار الوطني والدخول في تنازلات لصالح التيارين السابقي الذكر ولاسترضاء محفوظ نحناح الفائز بالانتخابات، وذلك بإدخال عناصر من حزبه لحكومته التي شكلها في جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1996 وذلك ضمن الحصة المسندة إليه في إطار القسمة التي ترتبها جنرالات المؤسسة العسكرية مع الرئيس. لتتواصل بعد ذلك تجربة الحوار ومحاورة الجماعات المسلحة وخاصة بعد إصداره لقانون الرحمة الذي كان بوابة المصالحة الوطنية.

وهنا نسجل أن الرجل حرص على معالجة الجبهة الأمنية المشتعلة قبل مجيئه للحكم بإجراءات ساهمت في بداية التنازل التدريجي للعمليات الإرهابية، وسحب الغطاء السياسي عن العمل المسلح خاصة مع استئناف المسار الانتخابي وبروز شرعية شعبية جديدة تأكدت في الانتخابات التشريعية في جوان (يونيو/ حزيران) 1997، إذ كانت المشاركة الشعبية كبيرة ومن مختلف الأحزاب الممثلة للتيارات الكبرى رغم عملية التزوير التي استفاد منها التجمع الوطنى الديمقراطي القريب من الرئيس زروال، وذلك على حساب حركة مجتمع السلم بقيادة محفوظ نحناح الذي اكتسب شرعية إضافية باحتلال حزبه المرتبة الثانية رغم أن كل التقارير المحايدة تقول بتصدره النتائج، وكانت هذه الانتخابات عودة قوية للتيار الإسلامي السلمي وانحسار متواصل لتيار العنف المحسوب على هذا التيار.

وقد شُكلت حكومة ائتلافية، حرص الجنرال اليامين زروال أن تمثل القوى الرئيسية في البرلمان مما أكسبه احترام الجميع وخاصة ان الجميع يقر أن برلمان 1997 في عهد زروال كان أزهى فترة ديمقراطية في تاريخ الجزائر لحد الآن. وبعد استتباب الأمور واستعادة الشرعية الشعبية رغم ما لحق العمليات الانتخابية من تزوير إلا أن مجموعة ضباط فرنسا الموجودة بالخصوص في قيادة الأركان وجهاز الأمن والاستعلامات (المخابرات)، لم تستسغ هذا النجاح لجنرال محاور ذي خلفية جهادية وعسكرية بحتة فهو من شباب ثورة التحرير واصل مساره العسكري في الجيش الشعبي الوطني قبل أن يتقاعد لخلافه مع الرئيس الشادلي بن جديد حول مشروع تجديد الجيش؛ لتتم الاستفادة من مصداقيته في الوقت المناسب مستغلين قناعاته الوطنية الراسخة.

فبدأ العمل على إزعاجه وحبك المؤمرات حتى وصل به الأمر إلى رمي المنشفة، والدعوة إلى انتخابات رئاسية في أفريل (أبريل/ نيسان) 1999 فاز بها عبدالعزيز بوتفليقة رغم ما شابها من تزوير وانسحاب جميع المنافسين الستة.

الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة كان يدرك بأن جنرالات الجيش الفرنسي السابقين بقيادة عرابهم الجنرال العربي بلخير والمتمركزين بشكل جيد في المواقع الرئيسية للجيش وسيطرتهم على المشهد السياسي بشكل جيد، لن يتركوه يحكم كما يحلم بل سيواصلون عملية المحاصرة حتى أنه صرح وهو رئيس جمهورية بأنه لن يقبل أن يكون ثلاثة أرباع رئيس في إشارة إلى مزاحمة الجنرالات له في الحكم ليؤخر عملية تصفيتهم لعهدته الثانية في 2004، وذلك بميلاد تحالف جديد بينه وبين قائد القوات البرية آنذاك الجنرال أحمد قايد صالح الذي أراد رئيس الأركان محمد العماري أن ينهي مساره ليفضل الرئيس إحالته على التقاعد وتعويضه بأحمد قايد صالح وهذه الخطوة كانت ضربة موجعة لجماعة ضباط الجيش الفرنسي لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات العسكرية المدنية بالجزائر.

الجنرال أحمد قايد صالح.. جنرال الحراك الشعبي

استطاع الجنرال أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الشعبي الوطني الجزائري الحالي أن يصمد أمام محاولات إزاحته من طرف آخر ضباط الجيش الفرنسي السابقين، الجنرال محمد العماري رئيس أركان الجيش السابق، الذي عارض التجديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة فأحاله هذا الأخير على التقاعد عقب فوزه بالرئاسة مرة أخرى سنة 2004. ويتحالف مع الجنرال أحمد قايد صالح، الذي رقي إلى رتبة فريق، ليتم توزيع السلطة، إذ يتكفل الفريق بالجيش ومشروع التحديث؛ في حين يمسك الرئيس بالمشهد السياسي بمجمله ليتفرغ للقضاء على خصومه من العسكريين وقد بدأها بتنحية الجنرال العربي بلخير كبير نادي ضباط فرنسا وأنهاها بتلميذه الفريق محمد مدين المدعو توفيق رئيس دائرة الاستعلامات والأمن (المخابرات) سنة 2015.

ليسدل الستار على حقبة مجموعة الضباط والجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي الذين التحقوا بالثورة والجيش بعد الاستقلال؛ وهي مجموعة لها دور كبير في بقاء النفوذ الفرنسي وسيطرة اللغة الفرنسية؛ حيث جمع الكاتب ومجموعة من السياسيين الجزائريين لقاء بالسفير الجزائري الحالي في تونس عبدالقادر حجار، وروى لنا جانب من تجربته على رأس لجنة التعريب في بداية الثمانيينات أيام الحزب الواحد؛ ووقوف الجنرال العربي بلخير وضباط آخرين ضد تعميم استعمال اللغة العربية. 

وهذا ما تؤكده الحقائق التاريخية، إذ بمجرد وصول مجموعة ضباط فرنسا لمراكز القرار تم تجميد قانون تعميم استعمال اللغة العربية وهذه إشارة فقط على سعيهم الحثيث لإدامة الهيمنة الثقافية الفرنسية وتدعيم للنفوذ الفرنسي بشكل عام. بوصول الجنرال أحمد قايد صالح إلى قيادة الجيش، وهو المجاهد في جيش التحرير والضابط الجزائري المشارك رفقة زملائه الجزائريين والعرب في الحرب العربية الإسرائيلية سنة1973. وهي الحرب الوحيدة التي شارك فيها الجيش الجزائري خارج الحدود؛ بدأت مرحلة صعود ضباط التوجه العروبي الإسلامي من جهة وبداية تصاعد المؤسساتية والاحترافية داخل الجيش من جهة ثانية. 

وقاد الجنرال أحمد قايد صالح عملية تحديث واسعة، وتفرغ الجيش في عهده لمهامه العسكرية وازدادت اللحمة بين القيادة العسكرية ومختلف الضباط والجنود المتواجدين في مختلف الوحدات المنتشرة عبر ربوع أكبر بلد من ناحية المساحة في القارة الإفريقية والعالم العربي.

فلم يتعود الجزائريون قبل ذلك على النزول الميداني والمتواصل لرئيس أركان الجيش؛ وبداية صناعة عسكرية في مختلف المجالات الحربية وتكثيف التعاون الدولي وتنويع الشركاء والابتعاد عن سياسة المحاور العربية والدولية والمحافظة على مبدأ عدم التدخل العسكري خارج الحدود الجزائرية والنأي بالنفس للوقوع في المستنقعات المختلفة بعد انكسار الربيع العربي. 

وتحول الجنرال أحمد قايد صالح الملقب بعمي صالح من طرف ضباط وجنود الجيش؛ إلى راعي عملية التحديث والتطوير وفتح المجال إلى جيل الاستقلال لزيادة قدراته وإعطائه فرصته الكاملة في القيادة. وتدرج الجيش في مدارج الاحترافية وترسخت الثقافة المؤسساتية مما مكنه من تصدر المراتب الأولى عربيا وإفريقيا، ومراتب محترمة على المستوى العالمي حيث يحتل المرتبة 27 من137 جيش حسب تصنيف مؤشر GFP لسنة 2019.

ولقد ساهمت هذه الاحترافية ومسار المأسسة في تطور الممارسات الديمقراطية داخل الجيش الجزائري، وهو ما ينعكس لاحقا على طريقة تعاطي الجيش مع الحراك الشعبي الذي بدأ في 22 فيفري (فبراير/ شباط) 2019؛ إذ أن مستوى الاحترافية والمأسسة الذي وصل إليه الجيش له علاقة طردية مع الحياة الديمقراطية وتطوير أساليب اتخاذ القرار داخل الجيش وهذا ما لاحظه الجميع بتقيد رئيس أركان الجيش بالنص الكتابي لخطاباته التي يتم صياغتها من طرف كبار الضباط وبعد التشاور حول مجمل نقاطها مما أعطى الانطباع أمام المتابع الحذق بأنه أمام عمل مؤسساتي وليس أمام قائد يرتجل الخطابات.

بل إن ردود المؤسسة العسكرية تميزت بمنهجية تعبر على روح التشاور والتداول الديمقراطي؛ وحتى الأخطاء يتم مراجعتها يوم أو يومين بعد تلقي الردود من الحراك والطبقة السياسية والرصد المتواصل للاتجاهات الكبرى لرواد وسائل التواصل الاجتماعي ومن ثم يتم التحيين بما يوائم المطالب الشعبية؛ وهذا ما يدل على الجاهزية السياسية والانسجام بين مكونات القيادة للتفاعل مع الأحداث وكان آخرها خطاب تمنراست، إذ ثمن الإنجازات المحققة للحراك الشعبي بفضل التعاون مع الجيش ودعوته للحوار الوطني بديلا عن المغامرات وأساليب التأزيم التي ربطها بمرحلة المأساة الوطنية الحاضرة بقوة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري.

كما أن الدعوة إلى تقديم التنازلات المتبادلة ساهمت بشكل كبير في الترحيب بهذا الخطاب من طرف التيارات السياسية الكبرى في البلاد، التي ستنعكس لا محالة في الجمعة 15 من الحراك الشعبي لتبدأ مرحلة التوافقات للوصول إلى خارطة طريق الخروج من الأزمة.

الكلمات المفتاحية