مع تلاعب جيشه بالقطاع.. هل يتجه نظام السيسي لتحرير سعر الدواء في مصر؟

محمد السهيلي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بينما يعاني المصريون من تفاقم أسعار السلع الغذائية الأساسية مع تراجع كبير للجنيه أمام العملات الأجنبية، تتلاعب "مافيا الدواء" ومن ورائها لواءات الجيش، بأسعار علاج أكثر من 100 مليون مصري.

وفي 9 مايو/ أيار 2022، كشف رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية علي عوف، أن 70 شركة دواء طلبت من هيئة الدواء الحكومية التي يسيطر عليها الجيش، إعادة تسعير منتجاتها الدوائية مع قفزات سعر صرف الدولار، وارتفاع الفائدة بأميركا.

وتوقعت وكالة "فيتش" العالمية للتصنيف الائتماني، في فبراير/ شباط 2022، أن يشهد سوق الدواء المصري زيادة بنحو 6.6 بالمئة خلال 2022، ليصل حجم المبيعات المتوقعة من الأدوية إلى 82.3 مليار جنيه (نحو 4.5 مليارات دولار).

مافيا وتلاعب

من جانبه، كشف المدير التنفيذي للمركز المصري لحماية الحق في الدواء (ابن سينا) الدكتور محمود فؤاد، لـ"الاستقلال"، عن نقص واضح بالسوق المصرية للأدوية رخيصة الثمن "أدوية الفقراء" مقابل انتشار واسع لمثيلاتها الأغلى ثمنا، معربا عن تخوفه من تحرير سعر الدواء بالبلاد.

الطبيب المصري عضو "مجلس‏ ‏الاتحاد العالمي لمحاربة فيروس سي"‏ حذر أيضا من وجود تلاعب مريب يضر بملايين المرضى الفقراء، لافتا لحدوث ارتفاع كبير وغير مبرر بأسعار الكثير من الأصناف متهما "مافيا الاستيراد" بهذا التلاعب.

وقال فؤاد إن "أدوية الفقراء يوميا تنقص صنفا بدون سبب معلوم"، ضاربا المثل باختفاء إبر "فيتامين د"، التي يبلغ سعرها 15 جنيها فقط (18 سنتا) وتنتجها شركة "ممفيس للأدوية" (حكومية)، لافتا إلى أن نفس الإبر متوفرة بـ155 جنيها (8,5 دولارات) وتنتجها شركة خاصة، لم يسمها.

ولفت إلى أنه بالبحث عن باقي أدوية الفقراء وجدها تختفي من السوق، مؤكدا أنه "أمر ينطبق على أكثر من 400 صنف أدوية رخيصة تختفي، وفي مقابلها أدوية غالية الثمن متوفرة".

وعما أسماه بـ"مافيا الاستيراد"، أكد فؤاد، أنها "تضرب بعنف"، معلنا عن رصده زيادة بأسعار 10 أصناف لألبان الأطفال من 10 وحتى 30 جنيها (0,5 دولار و1,5 دولار)، وبينها منتجات شركات "بيبيلاك"، و"هيرو بيبي"، و"نستوحين"، و"نيوتري ستار"، و"نكتاليا"، و"ابتاميل ادفانس"، مع زيادة أسعار 30 صنفا لـ"سيريلاك" من 20 إلى 40 بالمئة.

وأوضح أنه "ولأن الألبان غير مسعرة جبريا وجميعها مستورد، فإن المصريين دائما ما يعانون مع مافيا الاستيراد التي رفعت أسعار الألبان، وكلما تتحرك أسعار الصرف تضع أسعارا جديدة هلامية دون أسس معلومة".

وتحدث الطبيب المصري عن "إشكالية أن 95 بالمئة من مخارج ومداخل صناعة الدواء مستوردة، تُصنع مع سلع مرتبطة بأسعار الصرف مقابل الجنيه غير المستقر، وبالتالي تحدث أزمات بسوق الدواء المصرية الذي بلغت مبيعاته عام 2021، نحو 65 مليار جنيه (3,55 مليارات دولار)".

وأشار إلى جانب آخر وهو "خضوع الدواء بمصر للتسعير الجبري الذي كان يتم بقرار رئيس الوزراء ويخضع الآن للهيئة العامة للدواء التي تأسست عام 2019 ونادينا بها قبل 10 سنوات وتخيلنا أنها ستكون محط إنقاذ من الأزمات وتنظم شؤون الدواء".

وقال فؤاد إن "تلك الهيئة (رئيسها عسكري وبدرجة وزير)، منذ تأسيسها وجدنا أنها جاءت فقط لتمرير أسعار الدواء، إذ تتوجه لها الشركات بطلب رفع السعر أو وقف إنتاج صنف معين بحجة الخسارة، فتطلب الهيئة دراسة جدوى من الشركة ويجرى تحريك السعر".

وأكد أنه "كل عام كان يجرى تحريك سعر 20 صنفا، ولكن الغريب ومنذ يناير/ كانون الثاني 2022، وحتى مايو 2022، حركت الهيئة أكثر من 300 صنف دواء، ما يدعو للريبة والغموض والتساؤل عن دورها بتمرير الأسعار وغياب باقي أدوارها على الأرض".

ومضى يقول إن "الدواء سلعة إستراتيجية لا غنى عنها، ولذا فإن مقدرات صناعة الدواء بالعالم بيد الحكومات لتتخذ فيها أقصى درجات ضبط السوق كونها ملف أمن قومي".

واستدرك: "لكن ما يحدث بمصر تلاعب كبير نتيجة نفوذ شركات مصرية وأجنبية وقربها من مراكز صناعة القرار، فتقوم بتعطيش السوق من دواء معين فيقلق الجمهور وتنشر الصحافة وتضطر الحكومة للحديث مع الشركة ثم ترفع سعر الدواء".

ورأى أن "تلك محاولات للي ذراع الحكومة لرفع أسعار الدواء، في فاتورة باهظة يدفعها المصريون".

ووصف الأمر بأنه "تلاعب واضح وعدم تقدير للمسؤولية والوقت الصعب الذي تمر به البلاد"، مبينا أن "هذا التلاعب يأتي في ظل غياب اللوائح العقابية ضد تلاعب هذه الشركات بشكل أو بآخر".

تسعير متواصل

وأعرب فؤاد عن مخاوفه "من تحرير سعر الدواء بمصر، وتركه لسوق العرض والطلب"، محذرا من "مشاكل كبيرة قد تحدث بينها تهديد الأمن القومي والسلم العام"، متمنيا ألا تتخذ الحكومة هذا الإجراء.

حديث فؤاد، يؤكده إعلان اتحاد الغرف التجارية أن 70 شركة دواء طلبت من هيئة الدواء إعادة تسعير منتجاتها الدوائية مع قفزات سعر صرف الدولار مجددا ورفع سعر الفائدة بأميركا للمرة الثانية في 4 مايو 2022.

المثير أن حديث الطبيب المصري، وطلب 70 شركة بإعادة تسعير منتجاتها الدوائية يأتيان بعد نحو شهر من ارتفاعات كبيرة ضربت سوق الدواء المصري بالأسبوع الأول من أبريل/ نيسان 2022، بلغت من 20 إلى 50 بالمئة من السعر الأصلي للدواء.

وذلك بعد إقدام مصر على رفع سعر الفائدة على الجنيه وتخفيض قيمة العملة المحلية بنحو 17 بالمئة في 21 مارس/ آذار 2022، مع رفع الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة على الدولار الشهر ذاته، على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا التي اندلعت 24 فبراير/ شباط 2022.

وإثر تعويم الجنيه الأول في عهد رئيس النظام عبدالفتاح السيسي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ضربت سوق الدواء المحلية ارتفاعات بأسعار أكثر من 3 آلاف صنف أدوية بنسبة وصلت 50 بالمئة في يناير/ 2017.

وبحجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، ومن ذلك الحين وتتوالى أزمات قطاع الأدوية في السوق الذي يصل عدد الأصناف الدوائية فيه لـ17 ألفا، وفقا لأحدث بيانات هيئة العامة للدواء أبريل 2022، الجهة الحكومية القائمة على وضع التسعيرة الجبرية للدواء بالبلاد.

وتستحوذ نحو 10 شركات أدوية كبرى برؤوس أموالها ومبيعاتها على سوق الدواء المصري، هي "نوفارتس"، و"جالاكسو"، و"سانوفي"، و"فاركو"، و"أمون"، و"ايبيكوا"، و"إيفافارما"، و"فايزر"، و"الحكمة"، و"ميديكال نيشن فارما".

وفي رؤيته لأسباب ارتفاع أسعار الأدوية الدائم في مصر حمل الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام، في 12 أبريل 2022، الحكومة المسؤولية مؤكدا أنها تبيع السلع بسعر السوق دون الأخذ في الاعتبار القدرة الشرائية لشريحة كبيرة من المصريين.

وانتقد في تقرير نشره موقع "العربي الجديد" الإلكتروني، "توقف الحكومة المصرية عن زيادة الاستثمارات في قطاع الأدوية"، مشيرا إلى ذهاب "صفقات أدوية كبيرة في الفترات الأخيرة لمستثمرين عرب وأجانب"، مؤكدا أن الحكومة مطالبة بالدخول بالصناعات المتعلقة بصحة المواطن لضبط السوق.

مسؤولية الجيش

الحديث عن نقص أدوية الفقراء رخيصة الثمن مقابل توفير الأدوية الغالية من نفس النوع، وتفاقم أسعار ألبان الأطفال ومافيا الاستيراد، وتحميل الحكومة مسؤولية تفاقم أسعار الدواء؛ يقابله تحميل تقارير صحفية للجيش كامل المسؤولية عن أزمات قطاع الدواء المصري.

ويحتكر الجيش استيراد كل ما يتعلق بمجال الصحة والطب عبر "لجنة الشراء الموحد" التي يرأسها ضابط جيش وتتحكم في قطاع الأدوية الذي قُدر حجم ما يستورده عام 2019 بـ71 مليار جنيه (3,8 مليارات دولار)، بحسب شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية في 22 يناير 2020.

معالم التوغل العسكري في القطاع الطبي بدت واضحة منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، حين أعلن وزير الصحة آنذاك أحمد عماد الدين، عن تولى إدارة الخدمات الطبية العسكرية بوزارة الدفاع شراء جميع احتياجات مصر الطبية والدوائية.

وما زاد القبضة العسكرية على قطاع الصحة والدواء، كان إصدار السيسي في 31 أغسطس 2019، القانون (151 لسنة 2019) بإنشاء "الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي"، برئاسة مدير "مجمع الجلاء الطبي" للقوات المسلحة اللواء بهاء الدين زيدان.

ذلك القانون، منح الهيئة سلطة شراء المستحضرات والمستلزمات الطبية لجميع الجهات والهيئات الحكومية، وإعداد الموازنة التقديرية السنوية اللازمة للشراء، وإعداد خطط وبرامج وقواعد التدبير والشراء الموحد من الداخل والخارج، والتعاقد مع الشركات لشراء المستلزمات الطبية وإدارة تخزينها ونقلها وتوزيعها.

ويسيطر ضباط جيش على قطاعات واسعة من أعمال وزارة الصحة وهيئاتها وقطاعاتها، وهو ما أشار إليه تقرير لـ"الاستقلال"، 5 يونيو/ حزيران 2021، مؤكدا على أن ضبابط الجيش هم المتحكمون الفعليون بالوزارة.

ولفت التقرير إلى دور مساعد وزير الصحة للشؤون المالية والإدارية اللواء وائل رفعت الساعي، باتخاذ القرارات، وتوقيع البروتوكولات، بجانب مدير مجمع الجلاء الطبي التابع للقوات المسلحة، ورئيس الهيئة المصرية للشراء الموحد، والإمداد والتموين الطبي، وإدارة التكنولوجيا الطبية اللواء بهاء الدين زيدان.

وأفاق المصريون يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، على وقع أكبر قضية فساد في وزارة الصحة، قيل حينها إنها تنال عمليات استيراد الدواء ولقاحات كورونا قبل أن يتم تخفيف حجم الأزمة وتوجيه اتهامات بممارسة نفوذ في قطاع الرقابة على المستشفيات لطليق وزيرة الصحة هالة زايد التي جرى تجميدها وتعيين قائم بأعمالها بديلا عنها.

وتعاني البلاد من أزمة كبيرة بأسعار السلع والخدمات وخاصة الإستراتيجية منها، مع أزمات مالية وتفاقم أزمة الديون التي وصلت لنحو 150 مليار دولار وفق مراقبين، بجانب عجز البلاد عن توفير العملة الأجنبية لتلبية عمليات الاستيراد، وسط تراجع قيمة الجنيه.

مكمن الأزمة

وتعليقا على ذلك، قال القيادي الإداري السابق بوزارة الصحة، الدكتور هاني سليمان، إن "الدواء سلعة إستراتيجية، ومنظومة الدواء المصرية معقدة ومتشابكة ومتداخلة، وزاد من تعقدها، تدخل الدولة والجيش".

الخبير بالإدارة ومدير "المعهد الوطني للتدريب"، أضاف لـ"الاستقلال"، أن "مصر، كدول العالم الثالث، ليس بها صناعة دوائية بمعناها الحقيقي، أي لا يوجد بحث علمي ودوائي ينتج دواء جديدا، كونها عملية مكلفة وتحتاج تكنولوجيات متقدمة وتستغرق سنوات، وهي إمكانيات لا تتوافر لمصر".

وأوضح أن "مصر، بها (صناعة تركيبية) للدواء، وتقريبا 95 بالمئة من الأدوية تستورد شركات الدواء المادة الخام والفعالة، وتقوم بتصنيعه أو تركيبه بأشكال دوائية مختلفة".

وتابع: "تتساوى في هذا الشركات العالمية والمحلية، فتأتي فروع الشركات العالمية بمصر بالمادة الفعالة من شركتها الأم بأميركا وأوروبا، بينما تأتي المصرية بالمادة الخام (المقلدة) للعالمية من جنوب شرق آسيا كالصين والهند وتقوم بتركيبها محليا".

"لتنتج الأدوية المعروفة بالأدوية التقليد أو الـ(generic)، الأرخص من مثيلاتها العالمية المصنعة بمصر، أحيانا بدرجة كبيرة جدا، ويمكن وصفها بأنها أدوية الفقراء"، بحسب سليمان.

وأردف سليمان: "إذن، عملية صناعة الدواء تتوقف على الاستيراد، وبالتالي توفير الدواء يعتمد على سعر الدولار وعلى قدرة شركات الدواء المصرية بتوفيره وسماح الدولة باستيراد المادة الخام والرقابة على الاستيراد... الخ".

مدير التخطيط الإستراتيجي السابق بشركة "فايزر الشرق الأوسط"، يرى "مع هذا كله، أن أسعار الدواء بمصر من الأرخص عالميا، حيث لا تقوم أي شركة محلية أو عالمية بتسعير الدواء إلا بموافقة وزارة الصحة، والتي غالبا لا توافق على التسعير إلا بمقارنة الدواء بمثيله العالمي".

وأكد أنه "بعد رفع قيمة الدولار أمام الجنيه، تأثرت شركات الدواء العالمية والمحلية، وأصبحت بعض الأدوية رخيصة الثمن لا تحقق ربحا، فكان من الضروري والمنطقي رفع الشركات الأسعار لتحقق ربحا معقولا، بموافقة وزارة الصحة، وإلا توقفت عن الإنتاج".

ولفت إلى أن "الـ5 بالمئة الباقية من الأدوية، تُستورد كمنتج جاهز (finished product) وهي أدوية يصعب إنتاجها وتركيبها بمصر، نظرا للتقنية العالية بتصنيعها، وغير المتاحة بمصر، وتكون  غالية الثمن، وإن كانت الحكومة أحيانا تقوم بتدعيم أسعارها للمرضى كحقن الأنسولين".

وأضاف أن "اختفاء الأدوية الرخيصة أمر مفهوم في ظل اقتصاد مصر الضعيف، فلن تنتج شركة منتجا يسبب خسارتها، وستطلب رفع سعر هذا الدواء إذا كان ضروريا للمرضى، فإن لم يحدث فستتوقف عن إنتاجه".

وأوضح أن "هذا سبب اختفاء الأدوية المقلدة (generic) رخيصة الثمن، مع توافر مثيلاتها الأصلية الأجنبية مرتفعة السعر، ويفسر هذا أيضا ارتفاع أسعار كثير من الأدوية".

سليمان أكد أيضا أن هذا "ينطبق على أسعار ألبان الأطفال المستوردة، التي زادت أسعارها نتيجة لزيادة سعر الدولار مقارنة بالجنيه، طبعا مع عدم استبعاد وجود عملية احتكار وتواطؤ بين بعض الشركات والجهات التي تسمح وتسعر الألبان".

وأضاف: "أما عن الألبان التي تصنع وتنتج بمصر، فنعرف أن الجيش يحاول احتكار الصناعة، وما حدث مع شركة (جهينة) وسجن مالكها صفوان ثابت، أكبر دليل".

وعن الحلول، قال سليمان، إنها "كثيرة ومتشعبة، منها قصيرة الأجل، كتوفير الدولار الجمركي لشركات الدواء بسعر معقول، وتدعيم الحكومة ماديا للأدوية المهمة للمرضى، وإدخال الأدوية المهمة تحت مظلة التأمين الصحي، وتقنين طريقة وصف وصرف الأدوية (العشوائية)".

وتابع: "أما الحلول طويلة الأجل فتتضمن دعم الدولة صناعة الدواء من أساسها، وتوفير مستلزمات الإنتاج، والسماح بالاستثمار العلمي والبحثي بإشراف الدولة، لإنتاج دواء مصري 100 بالمئة بأيدٍ مصرية".