من الاستعمار إلى الاستبداد: كيف ينظرون للشعوب كمشكلة!

عبدالله العودة | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

 كان الكوميدي الأمريكي "لوي سي كي Louis C.K." يسخر من الفوقية الثقافية للرجل الأبيض، ويحكي بأسلوبه الساخر هذا السيناريو بين الأبيض القادم من قارة أوروبا للعالم الجديد، وبين السكّان الأصليين لما سمّيت فيما بعد "أمريكا" ويحكي تلك الملابسات التي قادت ذلك "المستكشف" الأوروبي لهذه القارة الجديدة حينما كان متجهاً للهند وظنها الهند بالفعل ولكنه واجه مجموعة لم يرها في حياته وكان بعضهم يلبس بعض الشارات الحمراء فكان هذا الحوار المتخيّل:
الأوربي: أنتم الهنود؟
الساكن الأصلي: لا!
الأوربي: تبدو أشكالكم حمراء
الساكن الأصلي: أنت أقرب للون الأحمر مني!
الأوربي: يبدو أنكم هنود حمر، أليس كذلك؟!
الساكن الأصلي: لا.
الأوربي: أنتم الهنود الحمر على أية حال، وسيكون هذا اسمكم إلى قيام الساعة!

هكذا تم تصنيفهم بشكل لايغيّر أوصافهم واعتبارهم عند الآخرين بل حتى اعتبارهم لأنفسهم أحياناً، وذلك التصنيف والتسمية التي يقدمها المتفوق الفوقي ليس إشكاليته فقط في كونه يفترض تصنيفاً وتسمية لي ولك ولنا، بل في كون تلك التسميات والتصنيفات تجرّ تلك الحمولة الثقيلة من الحكم والاعتبار والتبخيس في كثير من الأحيان، مثل اختصار الأمريكي من أصل أفريقي بلونه هي عملية ثقافية عميقة ولها دور تبخيسي عميق ومؤثر جداً.
وهكذا فيما يتعلق بنا كشعوب وكأمة وكأفراد.. حينما تتم دراستنا وتسميتنا وتوصيفنا لا بوصفنا أمة وحضارة وشعب وتاريخ وقيم وأخلاق وعلوم.. ولكن بوصفنا "مشكلة" تحتاج فهم.. ثم بعد ذلك "مشكلة" تحتاج لعلاج. 
حينما تُقدَّم الشعوب وقيمُها وثقافتُها وخياراتُها وكأنها معضلة للاستعمار والاستبداد لكي يحلّها ويعالجها. والأخطر حينما تُصدّق المجموعات الشعبية ذلك التوصيف فتتعامل مع نفسها كمشكلة، وتصدّق فوقية الاستبداد والاستعمار.
ذلك التوصيف الاستبدادي/الاستعماري هو نفسه الذي طفق يقدّم شعوب الشرق كشعوب "قاصرة" تحتاج لكفالة ورعاية هذا المستبد والمستعمِر الراشد المتمدّن كمايدّعي، فبينما تقَدَّم ثقافة المستبد على أساس أنها حضارية ومتفوقة، تقَّدَّم ثقافة الشعوب على أساس أنها تشوهات بشرية يجب التخلص منها، وأمراض يجب علاجها. 
ولذلك يلاحظ الباحث الأمريكي المصري "حسين عجرمة/Hussein Agrama" أن الدراسات الغربية للعمل المسلم والإسلامي وحضوره وتأثيره تفترض مسبقاً كونه مشكلة وبلاء تختلف بحوثهم في طريقة فهمه وطريقة توصيفه، ومن ثم تختلف في طريقة علاجه ومحاولة حله وإعادته لجادة الصواب!.
والباحث قدم نماذج مختلفة في الدراسات الحديثة جداً حول الظاهرة الإسلامية التي تقرأ هذه الظاهرة كسلسلة من إشكالات وإخفاقات مختلفة ابتلي بها العالم العربي والإسلامي، فبالتالي -بغض النظر عن تطور العمل الإسلامي- فإن مجرد وجوده بحد ذاته يعتبر فشل للمجتمع وللوجود العربي والإسلامي –حسب هذه النظرة الاستشراقية-، ولذلك فالتسميات لهذه الظاهرة لاتخلو من حكم ونظر مسبق له بوصفه مرضاً يجب علاجه أو بلاءً يجب التخلص منه. 
هذه الطريقة والتوصيف والتسمية التي تفترض في طياتها حكماً مسبقاً واحتقاراً حضارياً وتبخيساً اجتماعياً كان إدوارد سعيد من أول من تحدث عنها حينما رصد الظاهرة الاستشراقية بدءاً بمصطلح "الشرق" نفسه الذي يتعامل مع ذلك العالم بوصفه مكاناً مشكلاً يتم عرضه على المشرحة وممارسة كافة التجارب العلاجية عليه واتخاذه كفأر تجارب للاختبارات الغربية.

وصفُ تحرك الشعوب العربية والإسلامية كمشكلة هو المشكلة في الحقيقة، فحينما يتم النظر لهذه الشعوب بوصفها مفعولاً بها ومجالاً للتجارب والتشريح والاختبار عوضاً عن النظر لها بوصفها شعوباً لها أشواقها وأمانيها وأحلامها هو أول البوائق في هذا النظر المنحاز.
حينما يتحدث المستبد أنه متفوق على شعبه وأنه متقدم متطور، بينما شعبه متخلف عنصري، فهذه مشكلة، لكنما يصدّق الشعب كل ذلك ويستسلم لهذه التوصيفات فهذي هي المشكلة الأدق والأعمق في محاولات المستبد الحثيثة لإعادة فهمنا لأنفسنا من خلال القوالب الضيقة التي تخدم مصالح الاستبداد وسدنته.  
 تلك المفردات التي نصنف بها أنفسها ونعرف أنفسنا في "الشرق" أو نعرف الآخرين من خلالها.. وتلك الاسماء التي تؤثر على فهمنا لمستقبلنا والتي تحمل كل الجراثيم النمطية المخيفة.. كل تلك الأشياء التي يتم بثها في أنفسنا فتحكمنا ونتعامل معها بكثير من التسليم والاستلاب.. قد تكون عملية مشوهة ومضرّة.. تمارس ذات الدور الثقافي والأخلاقي الذي يريد تحويل الشرق والعرب والمسلمين بثقافتهم إلى معامل رخيصة وتافهة للخبراء الغربيين وأشباههم والمستبدين وسدنتهم لكي يمارسوا عليها تجاربهم وأشغالهم.. بينما نحن بخبرائنا ومثقفينا وفقهائنا وتراثنا العريق العميق.. وتجاربنا نمارس دور الترجمة والتسليم والاستلاب والتعامل بشكل سلبي مع تلك المفردات الجاهزة.. ومع تلك التصنيفات الجائرة.. ومع تلك الأحكام الظالمة لأنفسنا.
قوى الاستبداد والاستعمار ورديفهما الثقافي لم تشوهنا عند الغرب وإعلامه ومراكزه الأكاديمية وباحثيه فحسب.. ولكن أهم وأخطر من كل ذلك شوّهتنا عند أنفسنا.. وشوّهتنا عند دورنا البحثية والأكاديمية.. وعند أبنائنا.. وعند أنفسنا!