خطوة إلى الأمام.. لهذه الأسباب فتحت تركيا وهولندا صفحة جديدة من العلاقات

رامي صباحي | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

بعد أزمة كبيرة بلغت حد طرد وزراء وسفراء واتهامات بالفاشية والنازية، وصل رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، في 22 مارس/ آذار 2022، إلى العاصمة التركية أنقرة، في زيارة لافتة تعد الأولى من نوعها منذ 10 سنوات.

وحظيت هذه الزيارة باهتمام كبير لدى الصحافة التركية والهولندية، وسط توقعات بأنها ستلعب دورا مهما في تليين العلاقات المتوترة بين البلدين منذ عام 2017، لا سيما مع تأكيد روته أهمية تركيا بالنسبة لبلاده والاتحاد الأوروبي على حد سواء.

وإن كانت الدوافع الحقيقية وراء هذا التحول الدبلوماسي تكمن في قضايا سياسية، فإن الاقتصاد لم يكن بعيدا عن المباحثات، في ظل تصدر هولندا قائمة المستثمرين الأجانب في تركيا، متقدمة على كل شركاء أنقرة الاقتصاديين الكبار.

علاقات متشعبة

ويرجع للمعاملات التجارية الفضل في بدء العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وهولندا في القرن السابع عشر، إبان عهد الدولة العثمانية.

ووفق أرشيف وزارة الخارجية التركية، عينت هولندا أول سفرائها لدى الدولة العثمانية في عام 1612، ومع إقامة وتعزيز العلاقات الدبلوماسية، زادت أنشطة التجار الهولنديين في جميع أنحاء الإمبراطورية.

واستمر التعاون الوثيق بين البلدين إلى درجة تولي هولندا دور الوسيط في مفاوضات السلام بين الدولة العثمانية مع النمسا وروسيا في عامي 1699، و1718 على التوالي.

كما لم تتردد الدولة العثمانية في منح مساعدة مالية لهولندا عام 1916، إثر فيضان ضخم تعرضت له البلاد آنذاك وتسبب بوفاة 35 شخصا، رغم ظروف الحرب العالمية الأولى.

وفي عام 2012، احتفلت تركيا وهولندا، بالذكرى الـ400 لإقامة العلاقات الدبلوماسية، لكن في 2017، عصفت بتلك العلاقات أزمة كبيرة استمرت تداعياتها عدة سنوات.

وبدأ الخلاف بين الجانبين في فبراير/ شباط 2017 بمنح هولندا حق اللجوء للعشرات من أنصار جماعة "غولن" التركية المتهمة بتنفيذ محاولة انقلاب فاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، أسفرت عن مقتل 252 شخصا وإصابة الآلاف.

ثم توسع الخلاف وتحول إلى أزمة دبلوماسية سياسية غير مسبوقة بين البلدين في 11 مارس 2017، عندما منعت الحكومة الهولندية وزيرة الأسرة التركية فاطمة بتول صيان كايا من دخول سفارة أنقرة في روتردام وأعادتها كما جاءت برا إلى ألمانيا.

وقبل ذلك بساعات، لم تسمح هولندا لطائرة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بالهبوط في أراضيها، للمشاركة في تجمع للأتراك في روتردام يتعلق بالاستفتاء على تعديل الدستور للانتقال إلى النظام الرئاسي في تركيا.

وردا على ذلك، استدعت الخارجية التركية في اليوم ذاته، القائم بأعمال السفارة الهولندية لدى أنقرة بغية الاحتجاج على هذه الإجراءات، وسحبت سفيرها، ومنعت عودة السفير الهولندي الذي كان في إجازة خارج تركيا.

وأكدت الوزارة في بيان، أن تركيا وهولندا بلدان صديقان وحليفان تربط بينهما علاقات دبلوماسية استمرت دون انقطاع طيلة 405 أعوام، وفي غضون ما يزيد عن أربعة قرون من الزمن لم تتبن الدولتان موقفا عدائيا تجاه بعضهما البعض في أي مرحلة.

وشددت على أن هذه الإجراءات الخطيرة لا تنسجم مع الأعراف الديمقراطية ولا الدبلوماسية، بل تستند إلى دوافع سياسية داخلية بحتة، لإرضاء رئيس حزب سياسي عنصري وشعبوي معاد للإسلام والأجانب، في إشارة إلى زعيم اليمين المتطرف في هولندا غيرت فيلدرز.

لكن الرد الأقوى جاء من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ قال في تصريحات صحفية بنفس اليوم: "هؤلاء (هولندا) لا يتقنون السياسة ولا الدبلوماسية، إنهم جبناء إلى هذه الدرجة، هم فاشيون وبقايا النازية".

وأضاف أن بلاده ستمنع الدبلوماسيين والسياسيين الهولنديين من القدوم إلى تركيا، بينما علق  رئيس الحكومة الهولندية مارك روته على ذلك بالقول: "إنها تصريحات جنونية بالطبع. أفهم غضبهم، ولكن هذا مبالغ فيه".

لكنه في الوقت ذاته قال: "سنبذل قصارى جهدنا للحفاظ على علاقات جيدة وقوية مع تركيا، تجمعنا روابط قوية منذ مئات السنين، ونريد أن تظل لنا علاقات رسمية معها، وأنا أدافع عن هذا بشدة".

وبينما كانت الحكومة التركية تنتظر اعتذارا رسميا عن هذه الإجراءات، فوجئت بقرار البرلمان الهولندي، في 17 فبراير 2018، بالاعتراف بمزاعم الإبادة الأرمنية في عهد الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ما زاد من حدة الأزمة، وسط ردود فعل تركية رسمية منددة وغاضبة.

خطوة للأمام

يعرف عن مارك روته، أنه من الزعماء الأوروبيين الذين يدعمون تبني أجندة إيجابية مع تركيا، رغم أي خلافات تطرأ بسبب مقاربات الجانبين.

ويدافع روته عن أهمية تركيا في حماية الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي "ناتو"، كما أن بلاده تستضيف جالية تركية هي الأكبر بالبلاد تقدر بنصف مليون فرد.

ومع تصاعد الأزمة بين موسكو والناتو نهاية 2021، وبدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، فرضت الدول الغربية وبينها هولندا، عقوبات اقتصادية قاسية ضد روسيا، بلغت إغلاق المجال الجوي أمامها.

بينما تبنت تركيا رغم عضويتها بالناتو نهجا مغايرا، نظرا لتمتعها بعلاقات سياسية واقتصادية جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا.

فنددت أنقرة بالتدخل العسكري الروسي، وأكدت دعمها لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، لكنها في الوقت ذاته رفضت المشاركة في العقوبات الغربية على موسكو، لإيمانها بأن حل هذه الأزمة سيأتي عبر إبقاء قنوات الدبلوماسية والحوار مفتوحة.

ورغم تواصل العمليات العسكرية اتخذت تركيا إجراءات عديدة للتوسط بين الجانبين، عبر اتصالات هاتفية متكررة جمعت الرئيس أردوغان بنظيريه الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

كما أجرى وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو مباحثات مع نظيريه الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميترو كوليبا، وزار كلا من موسكو ولفيف.

وتكللت هذه الجهود بإجراء لقاء في مدينة أنطاليا التركية بين لافروف وكوليبا، هو الأول من نوعه منذ بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، ما قوبل بإشادة كبيرة من قبل المجتمع الدولي.

وفي هذا السياق، قال أستاذ العلوم السياسية التركي، برهان الدين دوران، في مقال نشرته صحيفة صباح التركية في 26 مارس 2022، إن "هذا الموقف التركي المتوازن، أحدث تطورا إيجابيا في العلاقات التركية-الغربية الفاترة".

وأضاف دوران وهو أيضا مدير مركز سيتا التركي للأبحاث والدراسات، أن "السياسة الفريدة التي انتهجها الرئيس أردوغان بخصوص الأزمة الروسية الأوكرانية، تحظى بشعبية كبيرة لدى العواصم الغربية".

الأمر نفسه تحدث عنه رئيس الوزارء الهولندي في مؤتمر صحفي مشترك مع أردوغان، إذ قال إن بلاده تتابع الجهود المهمة التي تبذلها تركيا من أجل حل الصراع الروسي الأوكراني، عبر الحوار والمفاوضات.

وأضاف روته أنه تقدم بالشكر للرئيس أردوغان ووزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، لجهودهم الدبلوماسية، مؤكدا دعم هولندا لجهود تركيا في الوساطة بين أوكرانيا وروسيا بصفتها من الدول القليلة التي تملك اتصالات مستمرة مع البلدين.

الاقتصاد حاضر

كما شهد لقاء أردوغان وروته، مباحثات بشأن تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، في ظل ريادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا.

وخلال المؤتمر الصحفي المشترك، أوضح أردوغان أن حجم التبادل التجاري بين البلدين زاد 30 بالمئة عام 2021 رغم تداعيات وباء كورونا، وبلغ 11 مليار دولار.

وأضاف: "حددنا هدف الوصول إلى 15 مليار دولار لحجم التجارة الثنائية في المرحلة الأولى ثم 20 مليار دولار".

ونوه بأن هولندا تأتي في صدارة الدول التي لديها استثمارات مباشرة في تركيا بواقع 27.5 مليار دولار، بينما حجم الاستثمارات التركية في هولندا يصل إلى 16 مليار دولار.

وتابع أن "رواد الأعمال الأتراك يوفرون فرص عمل لـ80 ألف شخص من خلال 23 ألف شركة أنشؤوها في هولندا".

وفي نفس الاتجاه، أكد روته أن هولندا أكبر مستثمر أجنبي مباشر في تركيا، بواقع 3 آلاف شركة نشطة حاليا في مختلف المجالات.

وتتركز غالبية الاستثمارات الهولندية في تركيا بمجالات البنوك، والموانئ، والخدمات اللوجستية، والعقارات، والزراعة، والطيران، والأغذية، والإلكترونيات، وصناعة وتوريد السيارات، بالإضافة إلى السياحة الصحية.

وبين عامي 2003-2020، ضخت هولندا استثمارات مباشرة في الاقتصاد التركي وصلت قيمتها إلى قرابة 26.2 مليار دولار، وهو ما يقرب من 16 بالمئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في تركيا خلال نفس الفترة.

وفي إطار رغبته بإصلاح العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو، أشار أردوغان خلال المؤتمر الصحفي مع روته إلى العقوبات الغربية على تركيا في إطار الصناعات الدفاعية بسبب شرائها منظومة الدفاع الروسية "إس 400".

وقال: "إذا كنا معا في الناتو فعلينا إظهار تضامننا، وينبغي لنا كدول في الحلف التعاضد باتخاذ الخطوات المتعلقة بالصناعات الدفاعية، كما يجب فتح فصول تفاوضية جديدة في إطار مسار عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي".

ليرد عليه روته بالقول، إن "تركيا شريك مهم للاتحاد الأوروبي، وتحظى بأهمية سياسية وعسكرية كبيرة للغاية من أجل حلف الناتو".

زيارة حساسة

وفي قراءته للمشهد، قال الخبير الهولندي بالشأن التركي إريك جان زورشر، إن السبب الرئيس لزيارة روته هو "تقريب أنقرة من الجناح الغربي. فهو يريد أن تكون على الأقل في وئام مع الناتو والاتحاد الأوروبي قدر الإمكان حتى لو لم تشارك بالعقوبات الغربية على روسيا".

وأضاف لصحيفة "جمهوريت" التركية في 22 مارس، أن "موقف أنقرة الحيادي يحيد ويقلل من فعالية العقوبات الغربية، نظرا لأن تركيا أصبحت قبلة الروس الراغبين في التواصل مع العالم الخارجي".

ونقلت عن أولاف كوينز مراسل قناة RTL الهولندية المرافق لورته في زيارته، أن المحادثات مع أردوغان "حساسة للغاية، لأن هناك صراعا كبيرا داخل الناتو في ظل دعم تركيا أوكرانيا بالمسيرات الفعالة وفي نفس الوقت تمتلك منظومة إس 400 الروسية، والآن هناك حديث عن إعادة بناء هذا النظام".

وأوضح أن "هذا الاجتماع مهم جدا أيضا لأردوغان مع اقتراب انتخابات عام 2023 والخسائر التي تتعرض لها الليرة التركية، لذا ثمة حاجة لمواجهة ذلك".

وعن هذه النقطة، قال زورشر: "لدى تركيا الكثير لتخسره اقتصاديا، لكن من الناحية السياسية، لديها الكثير لتكسبه من هذه الحرب".

وأشار إلى أن "دور أردوغان كوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية منحه الفرصة لتقوية العلاقات بين تركيا والغرب، وهو يريد أن يجعل بلاده مركزا استثماريا جذابا للاحتياطات الأجنبية مرة أخرى".

وقبل زيارة روته، شهدت تركيا في الأسابيع الأخيرة، حركة دبلوماسية نشطة، أبرزها زيارات قادة ألمانيا واليونان وبولندا وإسرائيل.

كما أعلن رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، على هامش قمة الناتو الأخيرة أن بلاده قررت مع فرنسا وتركيا إعادة عمل منصة التعاون بين البلدان الثلاثة واجتماعها قريبا.

وهو ما أكده تشاووش أوغلو خلال مشاركته بمنتدى الدوحة في 26 مارس بالقول: "فرنسا وإيطاليا تفكران بشكل جدي في تنفيذ التصنيع المشترك لمنظومة الدفاع الجوي سامب ـ تي (SAMP/ T) في تركيا".

وعن هذا يقول الخبير السياسي التركي دوران، إننا أمام تحول إستراتيجي في العلاقات التركية الغربية، وهناك ميل لرفع العقوبات المفروضة على صناعات الدفاع التركية، وبروز دور أنقرة في مسألة توريد الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

ويضيف أن مسار أزمة أوكرانيا يؤكد أن أميركا والاتحاد الأوروبي مصممان على الحد من روسيا وإضعاف بوتين.

وذكر أنه من خلال الجمع بين سياستها المتوازنة في أزمة أوكرانيا، وسياسة التطبيع التي بدأتها مع أميركا والاتحاد الأوروبي والخليج واليونان وإسرائيل، فإن تركيا مستعدة للمساهمة في التحول الإستراتيجي في علاقاتها مع الغرب.

من جانبها، قالت الكاتبة التركية هلال قابلان، إنه "حتى قبل عام، كان هناك حديث في وسائل الإعلام والدوائر السياسية الأوروبية بشأن خيار استبعاد تركيا من الناتو، لكن اليوم يدرك الجميع أهمية أنقرة في الحلف أكثر مما قبل".

وأضافت في مقال نشرته صحيفة صباح في 25 مارس، أن "قدرة تركيا على التحدث إلى موسكو وكييف، وبقاءها كبلد وحيد عضو في الناتو تأخذه روسيا بعين الاعتبار رغم تنفيذ اتفاقية "مونترو"، وحملتها اللافتة في الصناعات الدفاعية على رأسها مسيرات بيرقدار تي بي2، فضلا عن أنها بلد لا غنى عنه في مسارات الطاقة والتجارة، كل هذا له دور في ذلك".