رغم الاتحاد الظاهر.. هكذا تتفاوت سياسات بريطانيا وفرنسا وألمانيا إزاء روسيا

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في صورة غير معهودة منذ عقود، اتحدت الدول الأوروبية مع الولايات المتحدة رغم الخلافات الكبيرة بينها، في الوقوف ضد روسيا عقب غزوها لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، لتفرض على موسكو حزمات واسعة من العقوبات.

العقوبات التي تقودها من وراء أميركا، كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، توصف بأنها لم يسبق لها مثيل في نطاقها وتنسيقها، فضلا عن توحيدها أقطاب أوروبا الثلاثة التقليدية، التي تتباين وحتى تتعارض أهدافها وإستراتيجياتها على الساحة القارية والدولية.

لكن رغم هذه الوحدة الظاهرية، تتبنى كل دولة من الثلاثي الأوروبي، وفق مراقبين، مقاربة خاصة إزاء هذه الحرب، تحاول عبرها تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب بقية المنافسين.

 فبريطانيا تعتبرها فرصة لتمييز نفسها وإثبات قوتها، بعد عامين من خروجها من الاتحاد الأوروبي، بينما تتقدم فرنسا لترسيخ مساعيها لقيادة القارة العجوز سياسيا وعسكريا، فيما وجدت ألمانيا نفسها مضطرة للتعامل معها، لوضع حد للقيود التاريخية التي تقيد نفوذها.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يظن أن الأجواء سانحة لتحقيق حلم إعادة نفوذ بلاده الإمبراطوري من جديد، في ظل انشغال ألمانيا مع مرحلة انتقال السلطة بعد حقبة أنجيلا ميركل، وفرنسا مع استعدادات الانتخابات الرئاسية في ربيع 2022، وبريطانيا مع المشاكل السياسية الداخلية، فضلا عن غرق أميركا في محاولات ردع صعود التنين الصيني.

عودة بريطانية

يلاحظ أنه حتى قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بأشهر، زادت بريطانيا حدة تصريحاتها ضد روسيا، على لسان كبار مسؤوليها السياسيين والعسكريين، الذين حذروا جميعهم من غزو روسي وشيك لأوكرانيا.

ومع بدء الغزو، تبنت بريطانيا نهجا صارما بحق روسيا وشرعت بإرسال طائرات محملة بأسلحة فتاكة ومعدات عسكرية إلى كييف، بالإضافة إلى مستشارين عسكريين لتدريب عناصر الجيش الأوكراني.

وعن هذا النهج، قال الكاتب والباحث السياسي أيوب الريمي إنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وضعت حكومة بوريس جونسون ما أسمته المراجعة الشاملة للسياسة الدفاعية والدبلوماسية، لتعزيز مكانتها ونفوذها، واعتبرت فيها روسيا التهديد الأكبر على أمنها وأمن أوروبا.

وأضاف في مقال بموقع الجزيرة نت في 5 يناير/كانون الثاني 2022، أن كلا من بوتين وجونسون يحملان مشاريع سياسية تقوم على استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي بالنسبة للأول، والإمبراطورية البريطانية للثاني، ما يعني أن العامل التاريخي حاضر بقوة في هذا الصراع.

أما على الواقع، فأحداث كثيرة، وفق الريمي، أظهرت حجم التدافع بين الطرفين واللعب على حافة الهاوية، لعل أشهرها تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته بغاز الأعصاب في بريطانيا عام 2018.

إذ اتهمت الحكومة البريطانية المخابرات العسكرية الروسية بتدبير هذا الهجوم، ما أدى حينها لاندلاع أسوأ أزمة دبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ الحرب الباردة.

أما آخر المواجهات، فكانت في يوليو/ تموز 2021، في البحر الأسود بين حاملة الطائرات البريطانية "الملكة إليزابيث" وعدد من السفن الروسية التي أطلقت طلقات تحذيرية قرب حاملة الطائرات، بدعوى أن الأخيرة تنتهك المياه الإقليمية الروسية.

وعن جذور هذه العلاقة، رأى الصحفي البريطاني الشهير جديون راتشمان، أنه من الناحية الجغرافية، كلا البلدين يقع على أطراف القارة الأوروبية، وكنتيجة جزئية لهذا، لطالما كان لدى كل منهما هوية مزدوجة على نحو متزامن يعتبران أنفسهما أوروبيين وشيئا أكثر من ذلك.

ولأنهما يقعان على حدود القارة، دائما ما يقلقان من صعود قوة واحدة تهيمن على الكتلة اليابسة الأوروبية، ما يفسر جزئيا سبب أن يكونا حلفاء في الحروب النابوليونية وفي الحربين العالميتين، يضيف في مقال بصحيفة فايننشال تايمز البريطانية بتاريخ 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.

وأشار إلى أنهما كانا يتنافسان بشدة في القرن الـ19 لتحقيق أكبر قدر من النفوذ في وسط آسيا، حيث كانت تتقدم بريطانيا شمالا من قاعدتها الاستعمارية في الهند، بينما الإمبراطورية الروسية تتمدد جنوبا في القوقاز على حساب الدولتين العثمانية والقاجارية (إيران حاليا).

وأوضح راتشمان أن كلا البلدين بنيا هويتهما الحديثة حول ذكرى النصر في الحرب العالمية الثانية عام 1945، وشيداها على الحنين إلى السلطة الإمبريالية.

لغز صعب

ترى موسكو أن العلاقات مع لندن تعتبر من الألغاز الصعبة والمعقدة على الساحة الدولية، إذ لا تريد بريطانيا التراجع عن مواقفها العدائية، وتصر على الاستمرار في الخلافات مع روسيا، من وجهة نظر الأخيرة، دون التأثير على التعاون الاقتصادي، خاصة في مجالات الطاقة.

وعن هذا، يواصل المحلل السياسي الروسي ليونيد ألكسندروفتش القول: "روسيا لا تريد شيئا من بريطانيا سوى أن تكف عن افتعال المشاكل معها ومنح اللجوء على أراضيها للهاربين من القضاء الروسي، وليس أكثر من ذلك".

وتابع في مقال بصحيفة البيان في 20 يناير 2011 إن هذا الأمر سبق أن صرح به بوتين حين قال: "نحن لا نريد منهم شيئا، هم الذين يريدون منا الكثير".

اقتصاديا، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وبريطانيا 23 مليار دولار في 2020، مرتفعا بنسبة 20 بالمئة عن العام السابق له، ولا توفر موسكو إلا 5 بالمئة فقط من الغاز الذي تستهلكه لندن، وفق هيئة الإذاعة البريطانية الرسمية.

كما أن لندن تعد واحدة من أكبر المراكز المالية التي تستقبل المال الروسي، وهذا ما يفسر مسارعة الحكومة البريطانية إلى إصدار عدد من العقوبات ضد رجال أعمال روس في بريطانيا.

فضلا عن وعيدها للأغنياء الروس "أصحاب الأموال القذرة بالمتابعة وعدم منحهم فرصة للاختباء"، حسب ما قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس، مطلع مارس/ آذار 2022.

ويقول الكاتب البريطاني أوليفييه بولوه في مقال بصحيفة الغارديان مطلع مارس 2022، إن دائرة الإحصاء الفدرالية الروسية تقول إن المستثمرين الروسيين يمتلكون أصولا مالية في المملكة المتحدة تبلغ 3.5 مليارات دولار.

في المقابل، يقول مكتب الإحصاء البريطاني إن مجموع الاستثمارات الروسية (سواء المالية أو عبر مشاريع وشركات) تبلغ نحو 30 مليار دولار.

وهذه المبالغ تعد "بسيطة" من وجهة نظر الكاتب، الذي يقول إنه خلال العقد الماضي تدفق ما مجموعه 75 مليار دولار من روسيا إلى الجزر والمناطق التابعة للتاج البريطاني التي يعتبر بعضها من الجنان الضريبية.

براغماتية فرنسية

على عكس بريطانيا، تتبع حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهجا يرى ضرورة التركيز على الدبلوماسية حصرا في خفض التوتر في أوكرانيا وبأوروبا عموما، وعيا منه أن الأخيرة ستدفع ثمنا باهظا بسبب هذه الأزمة، بينما المستفيد نسبيا هي أميركا.

وإلى جانب مشاركته في العقوبات، أعرب ماكرون عن عزمه الاستفادة من كافة الفرص الدبلوماسية المتاحة لخفض التصعيد حول أوكرانيا والحفاظ على أمن أوروبا، مبديا قناعته بأن تلك الجهود ينبغي أن تشمل توجيه تحذيرات حازمة إلى روسيا وتوسيع الحوار معها على حد سواء.

وماكرون يكاد يكون الزعيم الأوروبي الوحيد الذي يحتفظ باتصال مفتوح مع بوتين، في وقت يتجنبه معظم العالم بسبب غزو أوكرانيا، رغم أن جهود الرئيس الفرنسي الدبلوماسية فشلت في وقف الحرب لكنه لم يستسلم.

وتحدث الرئيسان 4 مرات منذ أن هاجمت موسكو أوكرانيا، وأكثر من 11 مرة خلال فبراير 2022، ما دفع إذاعة ألمانيا الدولية "دويتشه فيله" لوصفه بـ"المحاور المميز لبوتين".

وفسرت الإذاعة ذلك النهج في تقرير بتاريخ 8 مارس 2022، بأنه إلى جانب تولي فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إلا أن الحرب في أوكرانيا توجه ضربة قاسية للمصالح الفرنسية في روسيا.

وقالت إن "باريس هي المستثمر الأوروبي الأول في موسكو، وأكثر من 700 شركة فرنسية، بينها 500 برأس مال فرنسي تعمل في روسيا وتوظف نحو 200 ألف شخص، وفي عام 2020 وحده بلغت استثمارات باريس هناك حوالي 20 مليار يورو، وفق بيانات البنك المركزي الفرنسي".

كما أن عملاق النفط الفرنسي "توتال" من أكبر الشركات الأوروبية استثمارا في روسيا، وشركة صناعة السيارات الفرنسية "رينو" تستحوذ بنسبة 69 بالمئة على عملاق السيارات الروسي أفتوفاز.

وتعتبر فرنسا تاسع أكبر مورد للمنتجات الغذائية الزراعية لروسيا بقيمة 780 مليون يورو سنويا، بحسب جمعية الصناعات الزراعية الفرنسية "إنيا".

وأضافت أن فرنسا لديها أيضا شركات أخرى عديدة تخسر مئات الملايين يوميا بسبب تواصل الغزو الروسي لأوكرانيا، والعقوبات المفروضة على موسكو، ما يجعل فاتورة الحرب كبيرة جدا بالنسبة لباريس.

فضلا عن أن فرنسا تستورد نحو 8 بالمئة من الغاز الروسي، يوفر 24 بالمئة من احتياجاتها، ولا تستطيع توفير بديل له على الأجل القصير.

سياسيا، يأتي الغزو الروسي لأوكرانيا في وقت حساس بالنسبة لفرنسا التي ستشهد في 11 أبريل/ نيسان 2022، انتخابات رئاسية مفصلية، يسعى ماكرون عبرها إلى البقاء في الإليزيه لولاية ثانية.

ويتفق محللون كثيرون على أن هذه الحرب مثلت ضربة قاصمة لكثير من المرشحين، خاصة اليمينيين المتطرفين، بعدما غطت على ملفات، مثل المسلمين والهجرة لصالح السياسة الخارجية والأمن الأوروبي.

ويحسب لماكرون أنه كرر دعوته خلال ولايته الأولى إلى إنشاء "جيش أوروبي حقيقي"، لتمكين الاتحاد من الدفاع عن نفسه بشكل مستقل تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة، "بدلا من أن تكون أوروبا وأمنها الضحية بين تلك الأطراف".

وعبر سياسته الحالية، يبدو أن ماكرون يحاول مسك العصا من الوسط لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.

انعطافة ألمانية

في بداية الأزمة بين الغرب وروسيا، تبنت ألمانيا ممثلة في حكومة الديمقراطي الاشتراكي القريب من الروس، أولاف شولتز، نهجا حذرا يتجنب التصعيد والانخراط في العقوبات، لا سيما وهي تخطو أولى خطواتها بعد انتهاء حقبة ميركل التاريخية التي جعلت فيها بلدها قائدة لأوروبا.

وبينما كانت غالبية دول الغرب تمد الأوكرانيين بأسلحة فتاكة لحماية بلدهم من أكثر من 100 ألف جندي روسي يحتشدون على الحدود، أعلنت الحكومة الألمانية، في 26 يناير 2022، دعم كييف بـ5 آلاف خوذة عسكرية، ما أثار موجة من السخرية.

وأمام انتقادات أميركية وأوروبية، دافعت ألمانيا عن مشروع "نورد ستريم 2" المثير للجدل لنقل الغاز الروسي إليها، واعتبرته قضية اقتصادية وينبغي عدم تسييسها أو الزج به في ملف أوكرانيا.

وحتى قبل تشغيله، تستورد ألمانيا التي لديها استثمارات بـ20 مليار دولار في روسيا، نحو 16 بالمئة من الغاز الروسي، يوفر 49 من احتياجاتها، بأسعار تنافسية، أرخص نسبيا من القادم من موردين آخرين كالولايات المتحدة والنرويج وأستراليا.

وكان الصحفي والمؤرخ العسكري البريطاني الشهير ماكس هاستينغز، أكد قبل الغزو الروسي لأوكرانيا أن ألمانيا باتت الحلقة الأضعف طوال تاريخها على صعيد تعزيز الدفاع والأمن الأوروبيين.

وأضاف في مقال نشرته وكالة بلومبرغ الأميركية في 16 فبراير 2022 أن الأوكرانيين يطالبون الألمان بـ"الاستيقاظ" لأن "العالم أصبح أكثر خطورة"، و"لا يمكن لألمانيا السماح لنفسها بالبقاء على الحياد والاستمرار بالنوم، والاستمتاع بحياة مريحة".

لكن، يدعم الألمان بأغلبية ساحقة رفض حكومتهم اتباع نهج بريطانيا مثلا في شحن الأسلحة إلى أوكرانيا، ما يؤكد أنه حتى بعد أكثر من 70 عاما؛ ما تزال ذكرى الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها القاتمة، إذ "لا تريد برلين تحويل المناجل إلى سيوف مرة أخرى".

هذا الأمر اختلف تماما بعد الغزو، ففي منعطف لافت للسياسة العسكرية الألمانية، أعلن شولتز، في 27 فبراير، تخصيص 100 مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية لجيش بلاده.

وأكد شولتز متجاهلا ميوله الاشتراكية القريبة من روسيا أن هجوم موسكو على كييف يعد أساسا لنقطة فاصلة في السياسة الخارجية الألمانية.

ودعا إلى ضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور، مع التنصيص على زيادة الإنفاق الدفاعي بأكثر من 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، بدلا من حوالي 1.5 بالمئة.

وقبل ذلك بأيام، أعلن شولتز في خطوة أغضبت روسيا جدا، تعليق التصديق على تشغيل مشروع "نورد ستريم 2"، ردا على اعتراف موسكو بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا.

وتعليقا على هذا التحول، قالت أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية، ليلى نقولا، إن الحرب الأوكرانية بدلت المعادلات، فالشعب الألماني، كسائر الشعوب الأوروبية، يستشعر اليوم الخطر الأمني، لذا لا توجد معارضة داخلية ولا خارجية لتغيير السياسة السابقة "المدنية"، التي استمرت عقودا طويلة.

وأوضحت في مقال نشره موقع قناة الميادين في 6 مارس 2022، أن ألمانيا وافقت على تحمل خسائر اقتصادية فادحة بعد إيقاف مشروع نورد ستريم 2، الذي كان يؤمن لها الغاز بأسعار أقل بخمس أو ست مرات من أسعار السوق العالمي.

وتابعت: "المشروع كان بمثابة رافعة مهمة لنمو ألمانيا ورفاهية شعبها، وكان سيجعلها مركزا للغاز الذي يجري توفيره لأوروبا".

وأشارت إلى أنه مقابل تخليها عن هاتين الميزتين، حصلت ألمانيا على الركن الأساسي لأي دولة تسعى إلى الهيمنة الإقليمية والوصول إلى مصاف الدول العالمية الكبرى: القوة العسكرية.

وختمت بالقول: بعد أن تصعد ألمانيا كعملاق أوروبي، هل يمكنها أن تستمر في قبول ترتيبات وتقسيمات النظام الدولي المتوارث منذ 1945، أم أنها ستحاول تغييره؟ وكيف يكون التغيير من دون حرب، والتاريخ يشير إلى أن صعود ألمانيا كان دائما حافزا للتوسع ونشوب الحروب العالمية؟