فولوديمير زيلينسكي.. رئيس أوكرانيا "الكوميدي" الذي صد غزو بوتين وفضح الغرب

علي صباحي | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

يتجول في شوارع العاصمة الأوكرانية كييف مرتديا الزي العسكري، ويتردد على نقاط تمركز جنوده، ويتشارك معهم المشروبات الساخنة منتصف الليل، وفي نفس الوقت يجري مباحثات مع زعماء العالم، ويشارك منشورات بعدة لغات عن بطولات وتضحيات مواطنيه عبر منصات فيسبوك وتويتر وإنستغرام التي يتابعه عبرها أكثر من 17 مليون شخص.

إنه فولوديمير زيلينسكي، الممثل الكوميدي الشاب الذي أخذه الأوكرانيون على محمل الجد وصعدوا به لرئاسة البلاد منتصف 2019، ليصبح بعد نحو عامين، الهدف الأول لجيش الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بدأ غزوه لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، بحجة "حماية الأقلية المتحدثة بالروسية وتطهير كييف من النازيين الجدد".

غير أن المفارقة التي ستدونها كتب التاريخ الحديث تتمثل في أن الرئيس الأوكراني يهودي ينحدر من أسرة كانت تعيش شرقي البلاد وتتحدث الروسية، وجده قاتل في الجيش الأحمر السوفييتي ضد النازيين إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945).

صعود زيلينسكي وخطابه الإعلامي المميز لا يفضح زيف رواية بوتين وحسب، بل كل زعماء الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، الذين لطالما تعهدوا بالدفاع عن أوكرانيا، واعتبروها شريكة لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن عندما بدأ الغزو، لم يسمع لهم حس!.

النشأة والصعود

ولد زيلينسكي (44 عاما) في 25 يناير/كانون الثاني 1978 بمدينة "كريفي ريه" جنوب شرقي أوكرانيا، وكانت عائلته اليهودية لا تتحدث سوى الروسية، وفي سن المراهقة منعه والده من السفر للدراسة في إسرائيل، حسبما نقلت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية في 25 فبراير 2022.

وعلى إثر ذلك بقي زيلينسكي في أوكرانيا ليدرس القانون، ويتزوج من رفيقته بالدراسة وينجب منها ابنا وابنة.

لكنه عندما تخرج وجد في الكوميديا والتمثيل موطنا جديدا، ليسطع نجمه سريعا فيها بداية من عام 1997، على مسرح برنامج "كي في إن" الفكاهي الساخر في روسيا، ضمن فريق أسسه يحمل اسم "95 كفارتال"، الذي أصبح لاحقا اسما لشركة فنية وإعلامية ضخمة أسسها وترأسها في 2003 بأوكرانيا.

وزادت شهرة زيلينسكي كممثل مع فيلم "الملازم رزفسكي ضد نابليون" المعروض عام 2012، لتتوالى بعدها أدوار البطولة عليه في عدة أفلام ومسلسلات.

لكن العمل الفارق الذي قلب حياة زيلينسكي، وحتى أوكرانيا،  رأسا على عقب، كان مسلسل “خادم الشعب”، الذي تنبأ بمستقبل رئيس حكومة كييف الجديد.

و“خادم الشعب”، مسلسل تلفزيوني كوميدي من ثلاثة مواسم، بداية من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وحتى مارس/ آذار 2019.

ولعب  زيلينسكي في المسلسل دور مدرس لمادة التاريخ في إحدى المدارس الحكومية، صوره أحد تلاميذه وهو يتحدث بغضب عن فساد الحكومة والأوليغارشية الأوكرانية، وانتشر الفيديو بشكل كبير، وبدأ المواطنون بمطالبته بالترشح لرئاسة البلاد.

وبعد ذلك يوافق البطل في المسلسل على الترشح للرئاسة، ليتحول من رجل من عامة الشعب إلى رئيس منتخب للبلاد بأغلبية غير متوقعة، وبشكل كوميدي بدأت حياته بالتغير على جميع الأصعدة.

وبعد النجاح الذي حققه في دور زعيم البلاد، أسس زيلينسكي عام 2018 حزبا سياسيا يحمل اسم "المسلسل" وترأسه، ليترشح في العام التالي إلى أعلى منصب بالبلاد ضد الرئيس بترو بوروشنكو، وهو ملياردير شهير كان يريد البقاء لولاية ثانية.

وتعليقا على ترشح زيلينسكي وزيادة شعبيته، صرح بوروشنكو خلال حملته أن "الولاية الرئاسية من خمس سنوات ليست مسرحية هزلية يمكننا تجاوزها إذا لم تكن مضحكة، وليست أيضا فيلم رعب يسهل إيقافه".

"أريد أن أذكر الجميع أن الأمر لا يتعلق بمزحة، إنها انتخابات تتعلق بمنصب القائد الأعلى"، يضيف بوروشنكو الذي لم يتوقع يوما خروج الممثل الشهير من الشاشة ليأخذ منه منصبه.

كرسي الرئاسة

وبنسبة 73 بالمئة من الأصوات، ألحق زيلينسكي هزيمة مدوية بالمعارضة والرئيس بوروشنكو الذي كان أقرب منافسيه، ولم يحصل سوى على 24 بالمئة من مجمل الأصوات في الدورة الثانية من الانتخابات.

وعن هذا "الزلزال السياسي"، قال الخبير الفرنسي في علم السيميولوجيا، فرانسوا جوست: "الخيال يسمح باختبار بعض الفرضيات، فمسلسل خادم الشعب يبين أنه برفقة رجل مبتدئ في السياسة كان كل شيء في أوكرانيا بخير، وهو أمر مقنع بالنسبة للشخص الذي يشاهد المسلسل كما لو كان الأمر واقعا".

وأضاف وفق صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في مايو/أيار 2019، أن "الخيال يؤثر في الواقع السياسي لكونه يجعل المتلقي يعتاد بعض الأوضاع، والمواطن الأوكراني العادي رأى نفسه في شخصية زيلينسكي".

ولم يهتم كثيرون بمواقف زيلينسكي السياسية، لكنه كان داعما في العموم للحراك الاحتجاجي المناوئ للهيمنة الروسية عامي 2013 و2014، ومعاديا صريحا لها بعد ضم شبه القرم وتغذية الحرب في الشرق الانفصالي، وداعيا إلى تقارب البلاد مع الاتحاد الأوروبي.

وحاول زيلينسكي ترسيخ صورته في أذهان الأوكرانيين باعتباره شخصا براغماتيا بإمكانه الحصول على اتفاق سريع مع روسيا لإيقاف الحرب في الشرق، وفي الوقت نفسه مواجهة الفساد المستفحل في البلاد.

كما سعى زيلينسكي خلال العامين السابقين إلى ترتيب وتعزيز البيت الداخلي الأوكراني، عبر وقف الاستقطاب بين الشرق والغرب والناطقين بالأوكرانية والروسية، وتوحيد جميع السكان حول "قيم الوطنية".

كما كان يطمح لنيل عضوية "مجموعة الدول العشرين"، وسداد الديون الغربية لتعزيز الاستقلال، ودخول "عالم الفضاء".

لكن هذه الأهداف علقت مع تزايد توتر العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، إذ رأت إدارة بوتين أن زيلينسكي يحاول الاقتراب أكثر إلى المعسكر الغربي من أجل نيل عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو".

وهو ما ترجم بداية من النصف الثاني عام 2019، في حشد بوتين لأكثر من 100 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، مهددا بالتصعيد حال لم يتغير الوضع الحالي.

وطالب بوتين طوال الأشهر الأخيرة بـ"ضمانات أمنية" كشرط لخفض التصعيد، أبرزها انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية وعدم إلحاق أوكرانيا بالحلف، وهي مطالب اعتبرها الغرب "غير مقبولة".

وفي 22 فبراير 2022، أعلن بوتين اعترافه باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين عن أوكرانيا، وأمر في فجر 24 من الشهر ذاته، قواته المحتشدة على الحدود ببدء غزو كامل البلاد، وضرب بنيتها التحتية والعسكرية.

زيلينسكي وحيد

ومع بدء الغزو وانتشار مقاطع مصورة للطائرات الروسية وهي لا تفرق في قصفها بين المناطق المدنية والعسكرية، وتوالي سقوط القتلى والجرحى، خيم الرعب على الأوكرانيين الذين احتمى أغلبهم في الملاجئ والأنفاق.

وفيما بدأ آلاف الأوكرانيين في التوجه إلى الحدود الغربية للجوء إلى بولندا ورومانيا، إيمانا منهم أن بلادهم لن تصمد أمام الدب الروسي "الغاشم" العازم على القضاء على الوجود الديمقراطي في أوكرانيا، بدأت وسائل إعلام دولية تتحدث أن واشنطن حثت زيلينسكي على مغادرة البلاد.

وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن الولايات المتحدة جاهزة لمساعدة زيلينسكي على مغادرة كييف، لتجنب الوقوع في الأسر أو القتل على يد القوات الروسية.

ونقلت الصحيفة في 26 فبراير 2022 عن مسؤولين أميركيين وأوكرانيين لم تسمهم أن زيلينسكي رفض مغادرة البلاد، وتعهد بالبقاء مسؤولا عن حكومته رغم المخاطر الشخصية الجسيمة.

وهو ما أكدته السفارة الأوكرانية لدى لندن في تغريدة قالت فيها إن "زيلينسكي رفض عرضا أميركيا لإجلائه من العاصمة كييف، مع استمرار الهجمات التي تنفذها القوات الروسية لليوم الثالث على التوالي".

وكشفت السفارة أن زيلينسكي أبلغ الولايات المتحدة أن "المعركة هنا؛ وأنا بحاجة إلى ذخيرة، وليس رحلة..".

وفي نفس اليوم، قال زيلينسكي في خطاب نشره عبر منصات التواصل الاجتماعي إنه لديه معلومات استخبارية أنه "الهدف المطلوب رقم 1 وعائلته هي رقم 2"، مؤكدا أن "بوتين يريد تدمير أوكرانيا سياسيا بتدمير رئيسها".

وبينما يتواصل الغزو ويتصاعد القلق بشأن الأوكرانيين الذين بقوا وحيدين بين مخالب الدب الروسي، ندد زيلينسكي في خطاب مصور آخر بصمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتقاعسهما عن ردع بوتين، ناهيك عن دعم بلاده بأسلحة للدفاع عن نفسها ضد الغازين الروس.

وكشف زيلينسكي أنه توجه بالسؤال لقادة أوروبا عما إذا كانت أوكرانيا ستنضم للناتو لكنه لم يتلق أي إجابة، مؤكدا أن الجميع خائف من إعطاء بلاده ضمانات بالانضمام والحقيقة أنه لا أحد يريدها في الحلف.

وقال: "سألت اليوم 27 من القادة الأوربيين عما إذا كانت أوكرانيا ستنضم إلى حلف الناتو، لقد توجهت بالسؤال بطريقة مباشرة، الجميع خائف، ولا أحد يجيب".

وتابع: “لسنا خائفين، ولا نخاف من أي شيء، لسنا خائفين من الدفاع عن بلدنا، لسنا خائفين من روسيا، ولا من الحديث معها عن أي شيء، ولسنا خائفين من الحديث عن الحياد، لسنا أعضاء في الناتو في الوقت الحالي، لكن ما هي الضمانات التي سنحصل عليها؟ والأهم من ذلك ما هي الدول التي ستعطينا تلك الضمانات؟”.

تحدي بوتين

وردا على ترويج وسائل إعلام روسية مقربة من بوتين أنباء هروب زيلينسكي ومغادرته كييف، داعية الجيش الأوكراني لتولي زمام إدارة البلاد، خرج زيلينسكي في أكثر من مقطع مصور وسط شوارع كييف مرتديا الزي العسكري متحديا بوتين، وداعيا المواطنين الروس للخروج للتنديد بالحرب.

وأحدثت هذه المقاطع المصورة تفاعلا وتعاطفا كبيرين مع زيلينسكي على منصات التواصل الاجتماعي، وأعيدت مشاركتها آلاف المرات من قبل ناشطين ووسائل إعلام في مختلف دول العالم.

واستنكر ناشطون تنصل الغرب من الدفاع عن زيلينسكي بعدما وثق فيه، وفشل مجلس الأمن في اعتماد قرار بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا بعد استخدام مندوب موسكو حق النقض "فيتو".

وتواصل الاستنكار مع تكرار تصريحات وبيانات من الولايات المتحدة والدول الأوروبية تؤكد أنها "لن ترسل قوات مسلحة إلى أوكرانيا لخوض حرب مع روسيا تحت أي ظرف من الظروف".

وشارك الكاتب الصحفي الأميركي نيك كنودسن، فيديو لزيلينسكي وهو يشرب مشروبا ساخنا مع جنوده المدافعين عن كييف فجرا، قائلا: "يا له من تعزيز معنوي لهذه القوات.. أن تحظى بهكذا رئيس مجنون يقاتل إلى جانبها. يا له من عنيد!".

وتعليقا على الفيديو، كتب الدبلوماسي والسياسي المكسيكي خورخي جيواجاردو: "تخيل كيف تشعر القوات الروسية وهي تشاهد هذا المقطع، وفي نفس الوقت تشاهد بوتين في قصره وهم يتعرضون لكمائن في أرض أجنبية".

من جانبه، كتب رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط" (مقرها لندن)، غسان شربل، "أوكرانيا ضحية الغرب بائع الأوهام".

وكتب محلل المخاطر الدولية المقيم في لندن، أليكس كوكشاروف، "لطالما كنت حذرا بشأن الرئيس الأوكراني زيلينسكي، ولم أكن من المعجبين بالعديد من سياساته الداخلية".

واستدرك: "ومع ذلك، فقد أدى حتى الآن دوره بكرامة وشجاعة كقائد حرب غير متوقع لدولة تتعرض لعدوان أجنبي.. المجد للرئيس الأوكراني!".