عيون العالم على حدود أوكرانيا.. ما سيناريوهات التصعيد بين روسيا والغرب؟

محمد أيمن | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد تصعيد كلامي وتحذيرات متبادلة بين موسكو من جهة وواشنطن وحلفائها الأوروبيين من جهة أخرى بشأن أوكرانيا؛ التقى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بنظيره الروسي سيرغي لافروف بجنيف في 21 يناير/ كانون الثاني 2022.

وقبل ذلك بيوم واحد هدد بلينكن روسيا بأنها ستُقابل بـ"رد فعل سريع وقاس" من الولايات المتحدة، حال تجاوز الحدود الأوكرانية.

فيما ينفي الكرملين تخطيطه لهجوم عسكري، ويؤكد رغبته في خفض التصعيد وحل الأزمة عبر ضمانات مكتوبة، لا سيما فيما يتعلق بحلف شمال الأطلسي "ناتو" الذي يسعى منذ سنوات إلى تعزيز وجوده في منطقة النفوذ الروسي التاريخية.

ومن أجل الضغط على الغرب وإظهار إصرارها على وضع حد لهذه المعضلة التاريخية، نشرت روسيا خلال الأسابيع الأخيرة عشرات الآلاف من الجنود والدبابات والمدفعية على الحدود مع أوكرانيا، لتكون حاصرتها بالفعل من مختلف الجهات تقريبا.

وبالتزامن مع ذلك تتصاعد تساؤلات حول العالم عن الأسباب الحقيقية لكل هذا التصعيد؟ وهل العالم متجه نحو حرب عالمية ثالثة؟ وما سبل تسوية الأزمة؟

الرواية الروسية

قدمت روسيا بحسب ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيغي الأميركي للأبحاث في موسكو مسودة معاهدة إلى واشنطن، طالبت فيها بوقف رسمي لتوسع الناتو شرقا، وتجميد تعزيز البنية التحتية العسكرية للحلف في الأراضي السوفيتية السابقة، وبينها القواعد العسكرية وأنظمة الأسلحة.

وإضافة إلى ذلك طالبت روسيا بإنهاء المساعدة العسكرية الغربية لأوكرانيا، وفرض حظر على الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا من أجل درء احتمال نشوب صراع عسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

وقال ترينين في مقال بمجلة فورين أفيرز الأميركية في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2021 إن موسكو منحت الغرب شهرا واحدا فقط للرد على مقترحاتها، ونشرت المسودتين عقب تسليمهما مباشرة إلى واشنطن لمنعها من تسريب الاقتراح وتدويره.

لكن رئيس مركز الأوراس للدراسات الإستراتيجية في كييف أوراغ رمضان قال لـ"الاستقلال" أن طلبات روسيا المعلنة غير منطقية وصعبة التحقيق؛ خاصة فيما يتعلق بمقترحاتها حول عودة التمركزات العسكرية إلي حدود عام 1997 ما يُعد بمنزلة تنازل عن مخرجات الحرب الباردة التي يعتبرها القاموس الغربي انتصارا.

لكن رمضان يرى أن المقترحات الروسية تأتي ضمن مشروع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرد الاعتبار لدولته وحضارته؛ عبر إستراتيجياته القائمة على ضم الجمهوريات التي استقلت عقب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991؛ وإن لم يكن فتدشين نفوذ روسي متماسك فيها.

وظهر ذلك حينما فعّل بوتين معاهدة الدفاع الجماعي؛ التي استغلها في إرسال قوات إلى كازاخستان، ونشر بسببها الأسلحة النووية في بيلاروسيا؛ قرب حدود بولندا، العضو بحلف الناتو.

ويضيف أن تمسك روسيا بأوكرانيا نابع كذلك من الأهمية الإستراتيجية لكييف كجدار حماية أمام أي محاولة للعدوان على موسكو؛ خاصة وأن المنظومة الدفاعية الروسية بحسب رئيس مركز أوراس للدراسات صُممت على بقاء أوكرانيا ضمن حدود السيادة الروسية وإن لم يكن ففي منطقة الحياد. 

ويرى رمضان أنه في حال انضمام أوكرانيا إلى الناتو، فهذا يعني أن موسكو باتت على بعد دقائق من انطلاق أول صاروخ قصير ومتوسط المدى للحلف؛ في تهديد مباشر للأمن القومي الإستراتيجي لروسيا من بوابتها الخلفية.

و"هذا يعني ضرورة إعادة رسم المنظومة الدفاعية من جديد أو ما يعرف بإعادة المسح التليمتري للمدافعات الروسية، ما قد يُكلف الدولة الروسية مئات المليارات وربما جيل كامل من السنوات يتفاوت بين 20 إلى 30 عاما"، وفق رئيس مركز الأوراس للدراسات .

وبالتالي فإن احتلال روسيا لأوكرانيا بالنسبة لبوتين أفضل خيار من بناء منظومة دفاعية جديدة قد تكلفه مليارات الدولارات في وقت تعاني فيه روسيا والعالم من أزمة اقتصادية بسبب جائحة كورونا.

الرد الغربي 

في المقابل قال الباحث في الشأن الروسي المقيم في موسكو الدكتور نصر اليوسف لـ"الاستقلال" إنه إذا تعهد الغرب لروسيا بعدم الاعتداء ونشر أسلحة إستراتيجية على حدود أوكرانيا فإن الأمور يمكن أن تسير نحو التهدئة.

أما إذا كان الجواب الغربي غير مرض لموسكو فسيبقى التهديد الروسي قائما عبر إشعال القلاقل على الأراضي الأوكرانية؛ بحسب اليوسف؛ خاصة وأن هناك نسبة لا بأس بها من الأوكرانيين ترفض الاندماج مع الغرب وتريد الحفاظ على أصولها السلافية عبر الارتباط بروسيا.

فالفروق بين البلدين بحسب الخبير في الشأن الروسي تكاد تكون بسيطة؛ بل إن اللغة الروسية لا تختلف عن نظيرتها الأوكرانية بقدر اختلاف اللهجة السورية عن الجزائرية.

ويرى اليوسف أن روسيا قد تذهب للاعتراف بإقليمي لوهانسك ودونيتسك اللذين يسيطر عليهما انفصاليون موالون لموسكو كجمهوريات مستقلة حال كان الرد الأميركي غير مناسب للرغبات الروسية.

كما أنه من الناحية الفنية لا تستطيع أوكرانيا مواجهة روسيا التي تملك سلاحا نوويا، إضافة إلى أن الجندي الغربي لن يذهب إلى كييف لمواجهة الدب الروسي.

وهذه النقطة تحديدا يعرفها الشعب الأوكراني وحكومته بحسب اليوسف، لكنهم لا يملكون أي خيار سوي الاصطفاف إلى جانب الغرب؛ بسبب خشيتهم ممن يسمونها الأطماع الروسية التي ترفضها إستراتيجيا النخب الأوكرانية. 

لعنة الجغرافيا

ودليل ذلك أن التوترات الحالية بين روسيا وأوكرانيا يسبقها تاريخ يعود إلى العصور الوسطى؛ فكلا البلدين لديهما جذور في الدولة السلافية الشرقية المسماة "كييف روس"، لذلك يتحدث الرئيس الروسي عن "شعب واحد". 

وفي ديسمبر/ كانون الأول عام 1991، كانت أوكرانيا وبيلاروسيا، من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي؛ غير أن موسكو أرادت الاحتفاظ بنفوذها، عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة "جي يو إس".

وكان الكرملين يظن وقتها أن بإمكانه السيطرة على أوكرانيا من خلال شحنات الغاز الرخيص لكن ذلك لم يحصل، فبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا، كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائما على الغرب.

وأزعج هذا الكرملين؛ لكنه لم يصل إلى صراع طوال فترة التسعينيات، وآنذاك كانت موسكو تبدو هادئة لأن الغرب لم يكن يسعى لدمج أوكرانيا؛ كما أن الاقتصاد الروسي كان يعاني، والبلاد كانت مشغولة بالحرب في الشيشان.

لكن احتلال موسكو لشبه جزيرة القرم في مارس /آزار 2014 كانت علامة فارقة وبداية لحرب غير معلنة مع كييف؛ خاصة بعدما بدأت قوات روسية شبه عسكرية في ضم منطقة الدونباس الغنية بالفحم شرقي أوكرانيا.

كما أُعلنت جمهوريتان شعبيتان في دونيتسك ولوهانسك، يترأسهما روس. 

وبذلك فرضت الجغرافيا على أوكرانيا أن تكون ضحية دوامة لا متناهية؛ فكلما استعانت بالمظلة الأطلسية الغربية؛ زادت التهديدات الروسية لها. 

وتعد أوكرانيا بحسب أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية ليلي نقولا إحدى "دول الحاجز"، التي تفصل جغرافيا بين أوروبا وروسيا.

وأضافت نقولا في سلسلة تغريدات عبر حسابها على تويتر بأن الخيار الأول لدول الحاجز هو الحياد بين الدولتين المتصارعتين بشرط أن يعترف الطرفان القويان بهذا الحياد، أما الخيار الثاني هو أن تنحاز "الدولة الحاجز" إلى طرف من دون الآخر، وهذا يجعلها بحماية طرف قوي، الأمر الذي يجنّبها الغزو. 

 

أما الخيار الثالث كما تراه نقولا فهو أن تتحول الدولة الحاجز" إلى ساحة حرب يتقاتل فيها الطرفان المهيمنان على النفوذ في تلك الدولة وبالتالي، تتكبّد خسائر هائلة، وتتنازعها الأزمات، وقد تصل إلى الحرب الأهلية. 

وأكدت أن مأساة أوكرانيا تكمن أيضا في عدم إحساسها باستعداد الدول الغربية لحمايتها بما يكفي، حيث تنتقد العراقيل التي توضع أمام رغبتها في الانضمام إلى الناتو أو تزويدها بمنظومات أسلحة متطورة. 

ورغم ذلك صوت البرلماني الأوكراني في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2021 لصالح تمديد وجود قوات الناتو على الأراضي الأوكرانية في رد على الحشود العسكرية الروسية. 

وتوفر قوات الناتو تدريبات للجيش الأوكراني منذ عام 2015، لمساعدته في صد الانفصاليين المؤيدين لروسيا الذين يسيطرون على مساحات واسعة شرقي البلاد.

ويأتي ذلك ضمن خطوات الناتو للتصدي لروسيا ويقينه بأنها إن نجحت في خطواتها التصعيدية وأجبرته على القبول بصيغة استسلام والانسحاب من أوكرانيا؛ فإن هذا يعني اتجاهها لفرض شروط أبعد من ذلك؛ ربما تطول الأمن الأوروبي بحسب رئيس مركز الرائد للبحوث والإعلام في كييف الدكتور وائل العلامي.

ويضيف العلامي لـ"الاستقلال" أن الغرب استثمر على مدار سنوات في الإنسان الأوكراني لتوفير حاجز حماية قوي بينه وبين روسيا، التي فشلت في ذلك المسار؛ حين اعتمدت فقط على دعمها للأنظمة الأمنية الحاكمة لتلك البلدان.

في المقابل عملت الدول الغربية على دعم ما يُعرف بمؤسسات المجتمع المدني التي أخرجت نخبا من الخبراء يرون المصلحة الأوكرانية في التوجه غربا، وكثير من هذه النخب هم الموجودون حاليا في مراكز صنع القرار الأوكراني بحسب العلامي.

ويرى أن الصراع القائم حاليا ليس بين أوكرانيا وروسيا بقدر ما هو بين روسيا والولايات المتحدة فيما تمثل أوكرانيا فقط ساحة الحرب.

ويضيف أن الصراع القائم منشأه الجغرافيا الأوكرانية التي تفصل بين روسيا وأوروبا من ناحية وتفصل بين روسيا والدول المنطوية تحت حلف الناتو من ناحية أخرى، بسبب الحدود الأوكرانية الطويلة مع روسيا. 

ويعتبر أن الصراع القائم في الأساس صراع نفوذ على تلك المنطقة؛ بسبب أن معظم الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي منذ التسعينيات بقي لموسكو تأثير كبير فيها عبر التحكم في سياستها الداخلية والخارجية.  

ولذلك ثار بوتين كما يرى العلامي بسبب الوعود المتكررة من قبل الولايات المتحدة بضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والناتو، ووجد أن الميدان سيد الموقف لضمان استمرارية النفوذ الروسي في هذه المنطقة. 

وعلى الفور قرر بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم وبعدها توجه نحو الشرق الأوكراني لدعم الانفصاليين في منطقة دونباس، ضمن مخطط يراه العلامي محاولة من روسيا لجعل أوكرانيا بلد غير آمن لا تتوافر فيه شروط القبول لدى الاتحاد الأوروبي.

سيناريوهات التصعيد

ورغم أن موازين القوى العسكرية تميل بشكل واضح لروسيا؛ لكن أوكرانيا تعتبر بدورها قوة عسكرية إقليمية لا يستهان بها من وجهة نظر خبير الشؤون السياسية الألماني أندرياس أوملاند من مركز ستوكهولم لدراسات أوروبا الشرقية بالمعهد السويدي للشؤون الدولية.

وفي تقرير نشرته مجلة "ناشيونال إنتريست" الأميركية في 13 ديسمبر 2021 اعتبر أوملاند أن أوكرانيا أسست على مدار الأعوام السبعة الماضية، جيشا تقليديا هائلا ومحنكا.

فالقوات الأوكرانية كما يرى أوملاند مجهزة جزئيا، بأسلحة حديثة ذات تقنية عالية تم إنتاجها في أوكرانيا وخارجها وسيتم دعمها بالمزيد من الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية الغربية، في حال واجهت أي تصعيد من الجانب الروسي. 

وفي استعراضها لسيناريوهات التوتر القائم على الحدود مع أوكرانيا تحدثت وكالة الصحافة الفرنسية مع أربع من الخبراء الإستراتيجيين العالميين لاستطلاع آرائهم حول تلك القضية.

فأشار مدير الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ويليام ألبيرك، إلى أن الروس أعلنوا إجراء تدريبات ضخمة في بيلاروسيا من 9 إلى 20 فبراير (شباط) 2022، وهم في طور نقل شتى أنواع المعدات العسكرية، وطائرات قتالية، وصواريخ مضادة للطائرات.

ويستنتج ألبيرك أن أوكرانيا ستكون محاطة تماما بنحو مائة مجموعة مسلحة قريبة من روسيا؛ من الشمال بيلاروسيا، ومن الجنوب وجود روسي في شبه جزيرة القرم الأوكرانية، ومن الشرق دونباس حيث تدور حرب مع انفصاليين موالين لروسيا.

بينما يرى الباحث ماتيو بوليغ في مركز "تشاثام هاوس" البريطاني للأبحاث، أن روسيا تتحضر، من الناحية العسكرية لعدد كبير من الاحتمالات من حرب نفسية عبر هجمات سيبرانية وإعلامية إلى غزو ضخم. 

ويضيف بوليغ بأنه لم تعد المسألة بالنسبة لموسكو إن كانت ستتدخل في أوكرانيا، ولكن بات السؤال متى وكيف؟ لافتا إلى أن روسيا تنتظر أي عذر لتبرير تدخلها، ويشير إلى أن موسكو تتعرض لضغط بفعل عامل الوقت، إذ من الصعب أن تحتفظ بـ85 ألفا إلى 100 ألف عسكري بعيدا عن قواعدهم لفترة طويلة. 

في المقابل يرى الخبير بافيل باييف من معهد "أوسلو لأبحاث السلام" أن القوات المحتشدة على طول الحدود مع أوكرانيا لا تكفي لغزو ضخم واحتلال البلاد وذكر بأنه عندما غزا الاتحاد السوفيتي تشيكوسلوفاكيا في 1968، أرسل على الأقل ضِعف عدد القوات التي نشرتها روسيا على الحدود الأوكرانية.

ويرجح الباحث أن يأتي التصعيد على شكل ضربات جوية يكون الرد الأوكراني عليها ضعيفا بسبب افتقار الدولة للدفاعات الجوية والطيران الفعال ويقول ماتيو بوليغ ليس لروسيا أي مصلحة في غزو أوكرانيا سيترتب على احتلالها لهذا البلد تكلفة سياسية وعسكرية كبيرة جدا قد لا يحتاجها بوتين لتحقيق شكل من أشكال النصر .

ويضيف باييف أنه يمكن أن يكتفي بوتين باستخدام طلقات مدفعية وغارات جوية لشل مراكز القيادة والتحكم الأوكرانية وتدمير قدرتها على الرد دون أن يحرك القوات الروسية. 

ويؤيد المحلل كير غايلز، من "مركز دراسة النزاعات" في المملكة المتحدة، هذه النظرية، ويقول إنه يمكن لموسكو أن تحقق أهدافها بطرق عديدة غير غزو أوكرانيا.. وسبق لروسيا أن فعلت ذلك حين دفعت الولايات المتحدة إلى محادثات حول مستقبل هندسة الأمن الأوروبي.