رغم الرفض الواسع لانقلاب السودان.. هكذا خسر حمدوك وحكومته الظهير الشعبي

أحمد يحيى | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

مع قرار قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، خوض غمار الانقلاب العسكري، حاسما أمره بإنهاء الشراكة مع ائتلاف قوى الحرية والتغيير "قحت" والإطاحة بالمكون المدني من الحكومة الانتقالية، دخل السودان في إشكالية مركبة، بين المكونين، العسكري والمدني.

وبرزت تساؤلات ملحة، بشأن كيفية مساهمة المكون المدني بقيادة رئيس الوزراء المحتجز عبدالله حمدوك في الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة، وهل غلّبت حكومة قحت أجندتها اليسارية على التوافق الوطني؟ وما مراحل خسارة الحكومة الانتقالية لظهيرها الشعبي؟

الحرب على الإسلاميين

مع إعلان رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان إجراءات الإطاحة بالحكومة والمكون المدني في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، كان المكون المدني، لا سيما رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وفريقه في أضعف حالاتهم السياسية والشعبية.

وبالعودة إلى طبيعة العلاقات بين العسكريين والمدنيين التي أخذت في الاضطراب منذ أشهر قليلة، كان فريق المدنيين في السلطة مرتكزا على أساس تحالف (يساري قومي)، مارس بشراسة الإقصاء، من خلال لجنة "إزالة التمكين".

قادت اللجنة المذكورة حملة اجتثاث واسعة ضد القوى الإسلامية، ذات الثقل الشعبي، وضد من كان له صلة بنظام عمر البشير سابقا، حتى وإن لم يكن شريكا فيه.

وقد عملت لجنة التمكين المكلفة من حمدوك واليساريين باعتبارها هيئة تحقيق، ووكالة نيابة واتهام وقضاء، في ذات الوقت.

ومنذ بدايتها أعملت حكومة "قحت" روح الانتقام من الإسلاميين، عبر سلسلة من القرارات، جاء أبرزها في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وهو القرار الذي أصدرته مفوضية العون الإنساني السودانية، عندما ألغت تسجيل عدد من الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية، وتجميد أرصدتها، تحت ذريعة الانتماء للنظام السابق.

وهو ما أثار حينها قلق الحركة الإسلامية المتجذرة في البلاد.

لكن الضربة القاسية التي وجهها حمدوك للحركة الإسلامية، كانت في 11 أبريل/نيسان 2020، مع قيامه بإلغاء تسجيل "منظمة الدعوة الإسلامية"، وحجز واسترداد جميع أموال وأصول المنظمة، داخل السودان وخارجه لصالح وزارة المالية. 

ومنظمة الدعوة الإسلامية التي تأسست عام 1980، واتخذت من العاصمة السودانية الخرطوم مقرا لها، نص قرار حلها على إلغاء سجل كل الشركات المملوكة للمنظمة ومشاريعها الاستثمارية.

تلك الخطوات تسببت في احتقان واسع لدى الإسلاميين، ويكفي أن أعضاء حزب المؤتمر الوطني (المنحل) فقط يصلون إلى قرابة مليوني مواطن، غير جماعة الإخوان المسلمين، والحركات الصوفية المنتشرة في عموم السودان، والتي كانت تعمل من خلال تلك الجمعيات المغلقة أيضا. 

وكان الأمر ينذر بمعركة طاحنة بين الإسلاميين واليسار في حال استمر الوضع المتأزم على ما هو عليه، وبالتالي احتشدوا جميعا ضد المكون المدني، الذي خسر مبدئيا ذلك القطاع الشعبي. 

تطبيع وخيانة 

في مسارات الحكومة المتعثرة، اتهم حمدوك نفسه بالخيانة وأصبح محل شك من قبل المواطنين، عندما دعا بصفته رئيسا لوزراء السودان، الأمم المتحدة لإرسال بعثة من مجلس الأمن الدولي لدعم حكومته بقوات للمراقبة وحفظ السلام، مطالبا بإسناد مجموعة من الوظائف لها.

أخطرها "تقديم الدعم التقني في وضع الدستور والإصلاح القانوني والقضائي، وإصلاح الخدمة المدنية، وقطاع الأمن". 

أحزاب وتجمعات سياسية ورجال دولة بارزون في السودان أبدوا اعتراضهم على ما أقدم عليه حمدوك جملة وتفصيلا.

وقتها في 5 مارس/ آذار 2020، قدمت المحامية السودانية، أمل فايز الكردفاني، بلاغا للنائب العام، ضد حمدوك، تتهمه فيه بـ"الخيانة العظمى" تحت بند المادة (50) من القانون الجنائي لسنة 1991.

الكردفاني قالت في بلاغها: "بناء على ما تقدم يطلب رئيس وزراء السودان بموجبه من الأمم المتحدة أن تسعى إلى ‏الحصول على ولاية عامة من مجلس الأمن.. فما هي الولاية العامة؟"

وبينت أن "الولاية العامة تشمل كل عناصر دولة السودان (الإقليم، الشعب، السلطة ذات السيادة)".

وأضافت: "هذه الولاية تشمل حتى المرافق الحيوية والحساسة في الدولة كالقوات المسلحة وقوات الشرطة السودانية، في سابقة لم يشهدها الشعب منذ الاستقلال من الولاية البريطانية العامة على الدولة".

ثم شددت: "هذه البداية وحدها كافية لتأسيس جريمة الخيانة العظمى والتي هي مجموع الجرائم المقررة لتسهيل المساس باستقلال الدولة وفقا لميثاق الأمم المتحدة، ودساتير السودان والأعراف الدولية كافة ثم أخيرا القانون الجنائي".

النقطة الثانية خاصة بالتطبيع مع إسرائيل، وهو اختبار صعب رسب فيه حمدوك، مع تنازله عن قناعاته وأفكاره تجاه تلك القضية.

ففي 3 فبراير/ شباط 2020، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، بالفريق أول عبد الفتاح البرهان، في أوغندا.

 وقال حينها البرهان: "أؤكد على أن بحث وتطوير العلاقة بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية". 

وجاء موقف الحكومة الانتقالية برئاسة اليساري حمدوك، متوافقا مع تطبيع البرهان.

وفي 5 فبراير/ تشرين الثاني 2020، رحب حمدوك، بالمقابلة والتعميم الصحفي الصادر عن البرهان بشأن اجتماعه مع نتنياهو.

وقال حمدوك: "لا شك أن الطريق إلى التغيير الحقيقي في السودان مليء بالتحديات والعقبات، ومع ذلك يجب أن نعي أن الالتزام بالأدوار والمسؤوليات المؤسسية أمر أساسي لبناء دولة ديمقراطية حقيقية".

وكانت الديباجة الركيكة من قبل حمدوك لمسألة التطبيع التي يرفضها الشعب السوداني، مكافأة لخسارة شعبيته وشعبية حكومته، التي لم تستند إلى قوة عسكرية كالجيش، إضافة إلى خسارتها المتدرجة لكل القواعد الشعبية الممكنة. 

أداء متدهور 

كان السبب الرئيس للثورة السودانية، التي خرجت نهاية عام 2018 من مدينة "عطبرة" على بعد 310 كم من العاصمة الخرطوم، على شكل احتجاجات بسيطة، نفذها بعض المواطنين لا يتجاوزون الرهط من الناس، هو تردي الأوضاع الاقتصادية وغلاء أسعار المعيشة وتفشي الفساد الحكومي. 

وهو السبب ذاته الذي لم تتداركه حكومة (قحت) بقيادة حمدوك، حيث واجهت أيضا احتجاجات متكررة ومستمرة ومتصاعدة، نتيجة الأداء المتدهور. 

ومنذ يونيو/ حزيران 2021، شهدت بشكل يومي العاصمة ومدن سودانية متفرقة، مظاهرات دعت لها قوى شعبية ولجان وتنسيقيات محلية، رافعة شعار "تسقط بس"، في إشارة إلى حكومة "قوى الحرية والتغيير" التي كانت تقود المرحلة الانتقالية، كشريك للمكون العسكري الحاكم تحت مظلة مجلس السيادة. 

المظاهرات التي ارتفعت وتيرتها طالبت الحكومة بالاستقالة أو الإقالة، وذلك منذ دخول قرار رفع الدعم عن أسعار الوقود حيز التنفيذ مطلع يونيو/حزيران 2021، وتخللها اضطرابات واشتباكات مع عناصر أمنية وقوى تنفيذية تابعة لحمدوك، حاولت اعتقال بعض المتظاهرين.

ومنذ 10 يونيو/حزيران 2021، بدأت في الخرطوم وعدة ولايات، حملة واسعة لجمع توقيعات 10 ملايين سوداني، للمطالبة بإسقاط الحكومة.

وانطلقت التوقيعات تحت مسمى "الحملة السودانية لوقف الانهيار"، تطالب برحيل الحكومة، وسط دعوات لمليونيات عاصفة.

لم تراع الحكومة هذه المشاهد، واستمرت على نهجها في السعي لإقصاء الخصوم، وما أسمته إعادة هيكلة المؤسسات.

بينما كان الشارع يحترق غضبا ويتحرك ضد الحكومة، التي سقطت في النهاية أمام انقلاب عسكري، ولم تجد لها ظهيرا شعبيا قادرا على المواجهة. 

على غرار جبهة الهيئات السودانية في ثورة 21 أكتوبر/تشرين الأول 1964، التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق إبراهيم عبود، وكذلك التجمع النقابي السوداني، في انتفاضة أبريل/نيسان 1985 الذي أنهى نظام جعفر النميري، جاءت فكرة تجمع المهنيين السودانيين، مستلهما تجربته من التجارب السابقة، وبه انتهى نظام عمر البشير بعد 3 عقود من الحكم. 

هذا التجمع لم يستمر على وضعه بعد ذلك خلال المرحلة الانتقالية، عندما ضربت الخلافات والانشقاقات جذوره، وتهاوت قواه مع الوقت حتى جاء الانقلاب العسكري. 

وبداية السقوط والفرقة كانت في 10 مايو/ أيار 2020، عندما اندلعت خلافات داخل مكونات "تجمع المهنيين السودانيين"، قائد الحراك الاحتجاجي بالبلاد، على خلفية اختيار أعضاء أمانة عامة جديدة للتجمع.

حرق المراحل 

وبعدها بدأت التباينات تشتد داخل ذلك التيار الرئيسي المغذي للحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك. 

وفي الأول من يوليو/ تموز 2020، وصلت الأزمة إلى ذروتها مع انشقاق فصيل داخل التجمع، عن الكيان الرئيسي، ووصل الأمر إلى أن الفصيل المنشق، سيطر على الصفحة الرسمية للتجمع بموقع "فيسبوك"، والتي يتابعها مئات الآلاف مما أشعل الخلافات.

وحظيت آنذاك السكرتارية الجديدة لتجمع المهنيين بمساندة 11 من الكيانات المكونة له، بينما ساندت 6 كيانات المنشقين على رأسها لجنة الأطباء وتحالف المحامين، في حين انقسمت لجنة المعلمين بين التيارين، واختارت اللجنة المركزية للمختبرات الطبية الوقوف على الحياد.

تلك المعطيات جعلت الكيان الأكبر والمغذي للثورة، والداعم للحكومة الانتقالية في أضعف حالاته، ولم يصمد بالشكل المطلوب أمام حركة الجيش والإطاحة بالمكون المدني في مجلس السيادة. 

الصحفي السوداني، محمد نصر، قال في حديثه مع "الاستقلال" تعليقا على الاضطرابات والانقلاب العسكري الذي يشهده السودان، إن "الإشكالية الأساسية بين المكون المدني والعسكري في المجلس السيادي، هي النقطة الأخيرة في المرحلة الانتقالية".

فكلاهما لم يتخيل تسليم السلطة لأي جهة كانت، سواء بانتخابات أو توافق أيا كانت طبيعته، ففي مخيلة الفريقين أن الحكم سيؤول إليهم في جميع الأحوال، وتجاهلا طبيعة المرحلة الانتقالية ومتطلباتها لدى الشعب ومؤسسات الدولة، وفق قوله.

وأضاف: "فيما يتعلق بحكومة (قحت) وسياسة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، فإنه منذ أمد بعيد، ترك الشعب وراء ظهره، واستورد الدعم الخارجي، بالتقارب مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على أساس أنهم السند الحقيقي له ولحكومته".

ويرى أنه "في سبيل ذلك قدم الكثير من التسهيلات والتنازلات لهم، تحسبا لهذه اللحظة الحرجة، أمام تحركات المجلس العسكري، وحشود مضادة لسياستهم التعسفية تجاه قطاعات عريضة من الشعب السوداني". 

وذكر أن: "حمدوك أراد حرق جميع المراحل قبل الوصول لنهاية المرحلة الانتقالية، وعقد الانتخابات العامة، لأنه واليسار وتجمع المهنيين، يدركون جيدا أن نتائج الانتخابات غير مضمونة".

فالنتائج "قد تأتي باتجاه مضاد لهم، ولذلك فهم أرادوا الفتك بالإسلاميين والأحزاب المخالفة، ثم هيكلة مؤسسات الدولة، تحديدا الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وفقا لمخيلتهم وأجندتهم الخاصة".

وبين أنهم "فضلوا الصدام من خلال لجنة إزالة التمكين، التي غدت ذراعا ضاربة لهم، على تحقيق المصالحة الوطنية والتوافق، وهو ما أدى لاشتعال الأوضاع خلال الأشهر الأخيرة، وبالتالي الوصول لسيناريو الانقلاب العسكري، الذي كان منتظرا ومعلوما للجميع".