فرنسا ليست الأولى.. "السجل الأسود" للاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنائس

سليمان حيدر | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

خلال العقود الأخيرة، ظهرت العديد من الفضائح التي هزت الوسط الأوروبي والعالمي بشكل عام، والكنيسة الكاثوليكية بشكل خاص، بعد الكشف عن فضائح جنسية بحق الأطفال ارتكبها كهنة داخل الكنائس والمؤسسات التابعة لها. 

لكن القضية الأخيرة التي كشف عنها تحقيق مستقل في فرنسا، أظهرت عشرات الآلاف من الضحايا الأطفال الذين سقطوا في فخ الكنيسة، بين عامي 1950 و2020.

التفاصيل التي جرى الإعلان عنها في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2021 هي الأحدث التي تهز الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، بعد سلسلة من فضائح الاعتداء الجنسي في المؤسسات الدينية بالغرب. 

وتوصل التحقيق إلى أن حوالي 216 ألف طفل تعرضوا للاعتداء الجنسي من قبل الآلاف من القساوسة والشمامسة ورجال الدين الكاثوليك الفرنسيين خلال العقود السبعة الأخيرة.

وفي حال تم تضمين الانتهاكات التي وقعت من قبل الأعضاء العاديين التابعين للكنيسة، يمكن أن يرتفع الرقم إلى أكثر من 330 ألف حالة اعتداء جنسي على الأطفال خلال 70 عاما.

وأوضح رئيس لجنة التحقيق حول الاعتداء الجنسي في الكنيسة الكاثوليكية بفرنسا، جان مارك سوفيه، أن "الانتهاكات في كانت منهجية، ونفذها حوالي ثلاثة آلاف كاهن وأشخاص آخرون متورطون في الكنيسة، وسط حالة عميقة وشاملة وقاسية لسنوات من اللامبالاة". 

وأضاف سوفيه خلال عرض التقرير عبر الإنترنت في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 إن "الكنيسة لم تفشل في اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة فحسب، بل غضت الطرف أيضا عن الإساءة وأحيانا جعلت الأطفال عن قصد على اتصال مع الحيوانات المفترسة".

فضائح دولية

فيما الظاهرة لم تتوقف عند ما تم الكشف عنه من فضائح في الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، يبدو أن الأمر اعتادت أغلب الدول الغربية خلال العقود الأخيرة الكشف عنه بعد أن أصبح متفشيا بشكل واسع ويصعب السيطرة عليه بالتكتم.

ففي الولايات المتحدة، ظهرت التقارير الأولى حول هذه الاعتداءات قبل ثلاثة عقود وتحديدا في منتصف الثمانينيات. 

وأشارت مجموعة "مينيو لاو" الأميركية التي تتبنى الدفاع عن ضحايا الاعتداءات الجنسية داخل الكنيسة، إلى "توثيق الاعتداء الجنسي من قبل رجال الدين في كل ولاية أميركية، وأن مزاعم الإساءة والاعتداءات تمتد لعدة عقود".

وقالت في تقرير 21 سبتمبر/أيلول 2021 إن "العديد من مسؤولي الكنيسة رفيعي المستوى دبروا عمليات التستر بدلا من حماية الأطفال وأن العديد من الأبرشيات ومسؤولي الكنيسة قاموا بإخفاء الإساءة وحماية المسيئين".

بالإضافة لذلك، قام العديد من قادة الأبرشيات بنقل الكهنة المتهمين إلى أبرشيات مختلفة بدلا من الإبلاغ عن الانتهاكات لوكالات "إنفاذ القانون".

وتعرف هذه الممارسة المتمثلة في نقل الكهنة المسيئين باسم "خلط الكهنة"، وخلالها يقوم زعماء الكنيسة بتبديل الكهنة وحماية المتحرشين بالأطفال على حساب الأطفال الضحايا.

تقرير آخر لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أشار إلى "نشر 35 أبرشية كاثوليكية على الأقل في الولايات المتحدة أسماء قساوسة متهمين بالاعتداء الجنسي على الأطفال في المدارس التابعة للكنيسة". 

وقالت الصحيفة في 15 يناير/كانون الثاني 2019 إن "وتيرة الإفصاح تسارعت بشكل كبير بعد تقرير هيئة المحلفين الكبرى المتفجر الذي أصدره مكتب المدعي العام بولاية بنسلفانيا في أغسطس/آب 2018، والذي عرض بالتفصيل الانتهاكات التي تعرض لها أكثر من 1000 شخص من قبل مئات القساوسة".

سيئة السمعة

ورغم الأرقام الكبيرة التي أعلن عنها التقرير، إلا أنه شكك في مدى اكتمال القوائم التي تم نشرها، مشيرا إلى أن الأبرشيات كانت تقوم بالكشف وفقا لتقديرها الخاص وأن بعض الحالات أشار فيها الضحايا إلى أسماء لم تذكر في هذه القوائم وهو ما يعني أن الأرقام المعلنة أقل بكثير من الحقيقية. 

وفي أيرلندا والنمسا، كانت هناك حالات سيئة السمعة في منتصف التسعينيات، وكان من تداعيات تلك الفضائح سقوط الحكومة الأيرلندية عام 1994، بسبب قضية القس بريندان سميث. 

واكتسب سميث سمعة سيئة بسبب اعتدائه على عشرات الأطفال جنسيا عبر استغلال منصبه في الكنيسة للحصول على ضحاياه من مؤسسات رعاية الأطفال في بلفاست ودبلن والولايات المتحدة. 

وتظهر العديد من التقارير الغربية أنه في بداية التسعينيات، أثبتت سلسلة من القضايا الجنائية وتحقيقات الحكومة الأيرلندية أن "مئات القساوسة اعتدوا على آلاف الأطفال على مدى عقود".

وفي إسبانيا، لم يكن الأمر مختلفا كثيرا عن باقي الدول الأوروبية التي شهدت انتهاكات رجال دين تابعين للكنيسة على الأطفال وأيضا البالغين.

وأوضح تحقيق داخلي أجرته جمعية "غيسوس" الإسبانية ونشرته صحيفة "إي بي سي نيوز" الأميركية في 22 يناير/كانون الثاني 2021 تورط أكثر من 96 يسوعيا - وهو نظام دين كاثوليكي روماني أنشئ عام 1540- في الاعتداء الجنسي على أطفال وبالغين منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي. 

التحقيق الذي كان الأول من نوعه الذي يوثق مزاعم الاعتداء الجنسي من قبل منظمة دينية في إسبانيا، حدد 81 طفلا و37 بالغا كانوا ضحية الاعتداء الجنسي من قبل اليسوعيين الكاثوليك منذ عام 1927، وهو رقم أعلى بكثير من الحالات التي كانت معروفة حتى وقت نشر التحقيق الإسباني.

وقالت صحيفة "إل باييس" الإسبانية إنه في تحقيقها في قضايا الاعتداء الجنسي على رجال الدين منذ عام 1986، كان ثمانية فقط من بين 123 من الجناة المزعومين يسوعيين حتى الكشف عن تفاصيل هذا التحقيق بحسب تقرير "إي بي سي نيوز" الأميركية.

وجاء إفشاء اليسوعيين الإسبان في الوقت الذي حاول فيه البابا فرانسيس، أول بابا يسوعي للكنيسة، توعية الكنيسة في جميع أنحاء العالم بمشكلة إساءة معاملة رجال الدين وإصداره قبل أسبوعين من نهاية عام 2019 قوانين لمحاسبة التسلسل الهرمي والقيادات الكنسية على عمليات التستر في مثل هذه القضايا.

كما شهدت معظم الدول الأوروبية انتهاكات مشابهة لرجال دين كاثوليك بأرقام كبيرة، ومن بين هذه الدول، بلجيكا وكرواتيا والتشيك والدنمارك وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وأسكتلندا وويلز وإيطاليا ومالطا وهولندا والنرويج وبولندا وسلوفينيا والفاتيكان".

استدراج الضحية

تمر عملية استدراج الضحية عبر العديد من المراحل، يستخدم خلالها الكهنة المتورطون في هذه الفضيحة سلطاتهم الدينية وثقة الآباء فيهم.

وأوضحت مجموعة "مينيو لاو" المتخصصة في قضايا الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الكنيسة الكاثوليكية في تقريرها، أن اعتداءات الكهنة جنسيا على الأطفال تبدأ غالبا بعملية تسمى "الاستمالة"، وغالبا ما يستخدم الكهنة هذا التكتيك مع الأطفال لبناء الثقة مع الضحية قبل الإساءة إليهم. 

وأضافت أن الكهنة يتلقون ثقة كبيرة من رعيتهم كقادة روحيين، وأن هذه الثقة تفيدهم بعدة طرق أثناء "عملية الاستمالة".

وأشارت إلى أن المرحلة التالية، هي تحديد الضحايا المحتملين وخلالها يقوم الكهنة ببناء علاقات وثيقة مع رعاياهم ويسيؤون استخدام هذه العلاقات ويختارون الشباب الضعفاء ويجعلونهم أهدافا لسوء المعاملة. 

وبعد ذلك يقومون بعملية عزل الضحايا، مستغلين ائتمان الآباء لهم على أبنائهم وجعل الكاهن وصيا على النمو الروحي لأطفالهم، وهو ما قد يستخدمه المفترس لعزل الطفل الضحية تحت ستار "الإرشاد الروحي" أو "الوصاية". 

وفي المرحلة الأخيرة، بحسب "مينيو لاو"، غالبا ما يستغل الكهنة سلطة "الكهنة رجال الله" في عملية السيطرة على العلاقة وإخفائها من خلال تهديد الضحايا بـ"استياء الله"، ومن خلال ذلك يمكن لهؤلاء الكهنة المفترسين إجبار الضحية على الاستمرار وإخفاء تلك الإساءة.

تجذر الظاهرة

المؤرخ الإيطالي ويتس دي بوير، اعتبر أن "الطريقة التي استجابت بها الكنيسة للاعتداءات الجنسية من قبل الكهنة، لها جذور تصل إلى ما قبل 500 عام، عندما واجهت الكنيسة الكاثوليكية أول أزمة كبيرة من الاعتداء الجنسي". 

وأشار دي بوير في مقال بمجلة "أوريغينز" الأميركية المتخصصة في تحليل الأحداث التاريخية في مارس/آب 2019 إلى أن "استعصاء المشكلة وانتشارها يوحي بأنها متجذرة بعمق في تاريخ الكنيسة، وأنه جرى تغليف العديد من التفسيرات المقدمة في المناقشات الساخنة حول الأزمة - خاصة بين الكاثوليك - في الأحكام التاريخية".

وأضاف: "مهما كانت مزايا هذه الحجج، فإن فحص الماضي البعيد قد يوفر منظورا آخر لا يحظى بالتقدير الكافي للظاهرة التي نشهدها الآن ويقدم أدلة على ثباتها، وبشكل عام، كانت الحياة الجنسية للكهنة قضية شائكة في معظم تاريخ المسيحية".

وأكد دي بوير أن "أرشيفات محاكم التفتيش الباقية في جميع أنحاء العالم الكاثوليكي لا تزال تحتوي على سجلات الآلاف من حالات الاستدراج التي قام بها القساوسة، وأنها تظهر نوعا من علاقات القوة غير المتكافئة التي تحدد الحالات الحديثة للتحرش الجنسي، باستخدام (قوة المفاتيح) أو القدرة على الإعفاء من الخطيئة من خلال سلطة دينية وقضائية هائلة".

وأشار إلى أن "جزءا كبيرا من استمرار الظاهرة على مدار تلك القرون، هو الطريقة التي اتبعتها الكنيسة في استجابتها لأزمة سوء المعاملة".

ولفت المؤرخ إلى أنه "بدلا من تسليم المتورطين إلى السلطات المدنية، عادة ما كان يحكم على الكهنة الذين تثبت إدانتهم بتوجيه اللوم الأخلاقي إليهم، أو حياة الصلاة والتكفير عن الذنب، أو العلاج النفسي، أو إعادة التكليف بدلا من الملاحقة الجنائية".

وختم دي بوير مقالته بالقول: "وحيث كانت الكنيسة نفسها هي السبب الجذري للمشكلة، فإن الفضيحة تهدد أيضا بالكشف عن ضعف المؤسسة أو عارها".