النفوذ التركي في البلقان.. هكذا استعاده "العثمانيون الجدد" بعد عقود من العزلة

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

نهاية الحرب العالمية الأولى (1918) كانت الدولة العثمانية في آخر مراحلها وأضعف حالاتها بعد الهزيمة الكارثية، إذ كان كل شيء في زمامها يتداعى، تحديدا بمنطقة البلقان (جنوبي أوروبا وشمال غربي الأناضول)، وهي التي تمثل الأمن القومي والحاجز الإستراتيجي بين الأتراك والقوى العظمى في أوروبا.

بعدها انخرطت الجمهورية التركية الناشئة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في المعاهدات الجديدة التي أمليت عليها من قبل بريطانيا وفرنسا، كـ"سيفر" (1920)، و"لوزان" (1923)، التي سلبتها مواقعها المتقدمة ووضعتها في خندق الأناضول وتراقيا الشرقية. 

ومع وضع أتاتورك آنذاك مبدأ "سلام في الداخل، سلام في الخارج"، انعزلت وانصرفت أنقرة عن سائر دول البلقان، بجاليتها المسلمة العريضة، وبمشاكلها ومعاركها الضخمة.

وبقي الوضع على ماهو عليه حتى انتهت الحرب الباردة (1991) وتفكك الاتحاد السوفييتي، الذي كان مهيمنا على البلقان، ليصعد حزب "العدالة والتنمية" التركي إلى سدة الحكم عام 2002، ويبدأ رسم سياسة خارجية جديدة تجاه المنطقة الممتدة من البحر الأسود شرقا حتى البحر الأدرياتيكي غربا، والبحر المتوسط جنوبا حتى وادي الدانوب (وسط أوروبا) شمالا.

واكتسبت التوجهات طابع التواصل وزيادة النفوذ، وبعث العوامل المشتركة المتمثلة في الدين (الإسلامي) والعرق (التركي)، وذلك ضمن نظرة للمنطقة باعتبارها جزءا من مجال أنقرة الكبير، الذي يشمل مناطق الدولة العثمانية سابقا.

روابط دينية

في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، احتضنت ولاية أدرنة شمال غربي تركيا، الاجتماع التشاوري لرؤساء الشؤون الدينية لدول منطقة البلقان.

ترأس الاجتماع رئيس هيئة الشؤون الدينية التركي علي أرباش، وهو من المقربين للرئيس رجب طيب أردوغان، وقد علا نجمه عقب إلقائه خطبة الجمعة التاريخية الافتتاحية لجامع "آيا صوفيا الكبير" حاملا السيف. 

وتم تخويل أرباش بالقضايا الدينية ونشر الإسلام عبر هيئة الشؤون الدينية التركية، لذا جاءت البلقان على رأس الأولويات لقربها من تركيا.

وخلال كلمته أمام وفود دول البلقان في الاجتماع التشاوري، أشار أرباش إلى "أهمية تعلم الدين الإسلامي ونشره إلى أبعد بقاع العالم"، مؤكدا على "ضرورة التمسك بحبل الله، وبذل الجهود لصون الوحدة والتضامن حتى يزدهر الإسلام في كل ركن بالعالم".

وشارك في الاجتماع، رؤساء الإدارات الدينية في 10 من دول البلقان، إضافة إلى رئيس الشؤون الدينية في جمهورية شمال قبرص التركية.

وتتمثل دول منطقة البلقان في 12 دولة، تركيا، ألبانيا، البوسنة والهرسك، اليونان، كوسوفو، مقدونيا، الجبل الأسود، رومانيا، صربيا، سلوفينيا، كرواتيا، بلغاريا. 

وتعتمد أنقرة في إستراتيجيتها بشبه جزيرة البلقان على الروابط الدينية والتاريخية، إذ يشكل الإسلام ثاني أكبر ديانة في تلك المنطقة، وينتشر المسلمون بخاصة في البوسنة والهرسك، وألبانيا، ومقدونيا، وكوسوفو.

وتتراوح نسبهم ما بين 40 بالمئة في مقدونيا، إلى 95 بالمئة في كوسوفو، وكذلك ألبانيا التي يصل الدين الإسلامي بها إلى نحو 60 بالمئة، ويعتبر مسلمو تلك الدول تركيا هي الحاضنة والحامية لهم.

ولمعرفة أبعاد العلاقة ما بين المسلمين في البلقان، قام مركز "الجزيرة للدراسات" في يونيو/حزيران 2012، بنشر ورقة بحثية بعنوان "الأقليات المسلمة في البلقان الواقع والتحديات".

وجاء في الورقة البحثية أن "مسلمي البلقان يمثلون خليطا مجتمعيا متنوعا سياسيا وإثنيا ولغويا وثقافيا ومذهبيا، وتعتبره أوروبا جسما غريبا عنها وميراثا عثمانيا فحسب، وتبني مقاربتها الإستراتيجية لهذه المنطقة على أنها مساحة فاصلة بين المسيحية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية، وبين أوروبا والإسلام".

وأضافت: "يتوزع مسلمو البلقان إلى إثنيتين كبيرتين، هما: الإليرية (الألبان)، والسلافينيون الذين يضمون البوشناق والتربشيين، والغورانيين ومسلمي بلغاريا البوماك، ويتحدث مسلمو البلقان 10 لغات مختلفة أوسعها استعمالا الألبانية والبوسنية والتركية ولغة الغجر والبلغارية".

وذكرت الورقة أنه "على مدار القرن الماضي، خضعت الأقليات المسلمة في البلقان إلى اضطهاد وانتهاكات مأساوية من قبل الحكومات التسلطية الشيوعية، حتى تلك العشرية السوداء في التسعينيات، التي كانت بالنسبة لمسلمي البلقان إحدى الحقب التراجيدية الأكثر سوادا وإيلاما وخطورة في تاريخهم منذ فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية".

إعادة تموضع

عام 2002، وعقب صعود حزب "العدالة والتنمية" في تركيا، الذين عرفوا بـ"العثمانيون الجدد"، جاء دور تركيا التاريخي تجاه تلك المنطقة؛ حيث سعت لإعادة تموضع دورها الديني والثقافي في البلقان. 

واعتمدت سلاحها الآثر المتمثل في القوة الناعمة بالهيئات الدينية والتعليمية والخيرية، على أساس خلق شرائح واسعة من شعوب البلقان مؤيدة وداعمة لأي تمدد تركي على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية هناك.

وهو ما برز بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، في إقبال شعوب البلقان على تعلم اللغة التركية، وذلك من خلال معاهد التعليم المنتشرة في دول غرب البلقان، وتحديدا البوسنة والهرسك.

ويتم تدريس اللغة التركية في 150 مدرسة من مدارس البوسنة، ويستفيد منها نحو 10 آلاف تلميذ، لتعد بذلك ثالث لغة أجنبية في البلاد بعد الإنجليزية والألمانية.

وإلى جانب نشر اللغة، أقامت أنقرة مراكزها الثقافية، التابعة لمؤسسة "يونس إمره"، ويوجد 14 مركزا منها في البلقان، وهي معنية بنشر الثقافة التركية، وتقديم المنح التعليمية للطلاب.

كما أقامت تركيا عددا من الجامعات الخاصة في دول البلقان، مثل جامعة "بورتش الدولية" في سراييفو، والتي تأسست عام 2008، وكذلك جامعة "سراييفو الدولية" التي افتتحت عام 2004، وجامعة "إيبوكا" في العاصمة الألبانية تيرانا، وجامعة "البلقان الدولية" في عاصمة مقدونيا الشمالية، سكوبيه.

وأوردت الخارجية التركية في وثيقتها الشارحة لعلاقتها مع البلقان، بأنها "تؤمن بأهمية وضرورة الوجود في البلقان، من أجل تعزيز بنية الدولة في هذه المنطقة وخاصة في كوسوفو والبوسنة والهرسك، ولإحلال الاستقرار الإقليمي بالمنطقة، وانطلاقا من هذا المفهوم فإن تركيا تشارك في كافة المبادرات والوجودات الدولية في دول البلقان".

وفي حديث مع "الاستقلال"، قال الإمام بمسجد في العاصمة تيرانا، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، محمد سمي الدين، إن "الداعم الأساسي للمساجد والمجتمعات المسلمة في ألبانيا ودول البلقان، هو الحكومة التركية وهيئة الشؤون الدينية التابعة لها".

وأوضح أن "أنقرة تقوم بصيانة وترميم المساجد المتهدمة والقديمة، بالإضافة إلى إنشاء مساجد جديدة على أحدث طراز، وتتسع لمزيد من المصلين، مع عمل أنشطة دينية واجتماعية للمسلمين، بداية من مناسبات الزواج والجنائز، وصولا إلى تحفيظ القرآن ورعاية النشء المسلم". 

وأضاف سمي الدين: "لا تكتفي تركيا بذلك، بل تقوم بإمداد المساجد والمراكز الإسلامية بالعلماء والدعاة والأئمة لإقامة الشعائر الدينية، وتعليم المسلمين أمور دينهم، كما يحدث في أوروبا ومختلف دول العالم".

وذكر الداعية الإسلامي أن "هناك ميراثا ثقيلا للمسلمين في البلقان حيث تعرضوا لاضطهادات مريعة ومحاولة إبادة عرقية، تجدها حاضرة في نفوسهم وفي قصصهم وأدبياتهم، فلا يوجد بيت في البوسنة على سبيل المثال إلا وفيه قتيل على يد الصرب، وتجد كثيرا من الروايات حاضرة".

وتابع: "حتى ألبانيا كانت واحدة من أشد البلدان اضطهادا وعنصرية ضد المسلمين، رغم أن عددهم بها يزيد عن النصف، لكن نتيجة الحقبة الشيوعية، لا يكادون يعرفون عن الإسلام شيئا، ويمارسون حياتهم كمجتمع غربي خالص". 

واستدرك سمي الدين قائلا: "لكن حسهم الديني قوي، ونزعتهم تجاه تركيا باعتبارها الدولة الإسلامية الأقوى، والراعية لشؤونهم أمر طبيعي، فمعظم دول العالم الإسلامي لا تهتم كثيرا لدول البلقان لاعتبارات عديدة".

وتابع: "فقط تركيا التي ترعى وتحفظ شؤون المسلمين هناك، بالإضافة إلى وجود عدد غير قليل من العرق التركي والعائلات التركية المهاجرة، والتي لها روابط وثيقة بالدولة الأم في الأناضول".