تسادكان غبريتنساي.. قائد لقوات "تحرير تيغراي" هزم جيش إثيوبيا مرتين

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد سنوات من هجره لساحات الحروب والسياسة في إثيوبيا، أحدث قائد قوات "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" تسادكان غبريتنساي، دويا هائلا بهزيمة جيش الحكومة آبي أحمد، وتهديد العاصمة أديس أبابا. 

ففي وقت كان فيه الوضع مستقرا في إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا، تسللت قوات الدفاع الوطني منتصف ليلة 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 إلى الإقليم تحت جنح الظلام بمساعدة الشرطة الفيدرالية، وشرطة الولاية الإقليمية وقوات الدرك في منطقة أمهرة المجاورة ومنطقة عفر.

وارتكبت هذه القوات المجتمعة التابعة للحكومة المركزية في أديس أبابا بقيادة آبي أحمد، جرائم حرب ضد شعب تيغراي -وفق منظمات حقوقية- لتندلع شرارة حرب طاحنة لم تتوقف بين الإقليم والجيش الإثيوبي. 

هنا برز دور الرجل الأهم والمنقذ لشعب تيغراي الذين يصل تعدادهم إلى قرابة 6 ملايين نسمة، الجنرال غبريتنساي (71 عاما)، أحد أبرز الإستراتيجيين العسكريين الإثيوبيين على مدار نصف قرن، ومن قادة الحرب المعدودين في إفريقيا الذين استطاعوا تحقيق إنجازات عسكرية تاريخية فارقة في بلادهم.

تاريخيا، تنقل غبريتنساي ما بين المتمردين وقيادة الجيش، ثم عاود أدراجه إلى معسكر التمرد، لكنه هذه المرة زرع نواة جيش تيغراي الجديد الذي واجه قوات الحكومة وانتصر عليها خلال بداية 2021. 

أفضل العسكريين 

ولد غبريتنساي عام 1950، في بلدة رايا جنوبي منطقة إقليم تيغراي، وهو أحد أفضل المفكرين العسكريين في إفريقيا، ومن الإستراتيجيين المعدودين من أبناء جيله الذين استطاعوا إحداث فارق في خطط الحروب والنزاعات في القارة السمراء، كما وصفته مجلة "ذا إلفنت" الكينية في تقرير لها نشرته 9 يوليو/تموز 2021. 

للمفارقة بدأ الرجل حياته بعيدا عن السلك العسكري، وضمن قلة قليلة من أبناء بلدته، توجه للعلم والدراسة الأكاديمية، وحصل شهادته العلمية في علم الأحياء بجامعة أديس أبابا. 

وفي حديثه لمجلة "Insider Voice" الأميريكية، في 1 يوليو/تموز 2021، قال أستاذه السابق البروفيسور غرايم سلامان، موضحا السمات الشخصية لغبريتنساي: "كان هادئا بعيدا كل البعد عن صفات ضابط الجيش النمطي، كان مولعا بالتأمل ومستمعا جيدا، منفتح الذهن وخجولا، لكن بالطبع كان بداخله قلب من حديد".

شهد عام 1976 لحظة مفصلية في حياته، أجبرته على ترك السلك الأكاديمي، وارتداء البزة العسكرية، والانضواء تحت لواء "جبهة تحرير شعب تيغراي" التي كانت حينئذ، مجموعة ضئيلة، مكونة من بضع مئات من مقاتلي حرب العصابات ( الكوريلا) وكانوا ينتشرون في جبال الإقليم النائية. 

كان الهدف الرئيس لتلك المجموعة، محاربة نظام الحكم الشيوعي الدموي في أديس أبابا بقيادة الرئيس منغستو هيلا مريام، الذي اشتهر عهده بما يسمى "الإرهاب الأحمر". 

ظهرت براعة غبريتنساي، كعسكري فذ وقائد حرب لا يضاهى في المعارك ضد جيش هيلا مريام، في سنوات القتال الطاحن من عام 1976 إلى 1991، وبفضل مهاراته التنظيمية وقدرته على كسب ثقة المقاتلين، وتطويرهم ميدانيا، أصبح أحد أكثر القادة المتمردين الذين حظوا بالاحترام بحلول نهاية الثمانينيات.

وفي عام 1991، ونتيجة لجهوده تحولت "جبهة تحرير شعب تيغراي"، إلى جيش عارم يزيد تعداده عن 100 ألف مقاتل، بعتاد عسكري ضخم، وشمل فرقا خاصة تمتلك أسلحة ثقيلة ومعدات متطورة. 

وجاء يوم 21 مايو/ أيار 1991، ليحقق الجنرال غبريتنساي، أعظم انتصاراته العسكرية عندما شن هجوما كاسحا بجيش التيغراي إلى جانب القوات الإريترية، التي كانت متحالفة معه وتحت قيادته، على العاصمة أديس أبابا، ملحقا هزيمة كارثية بالجيش الإثيوبي، ومطيحا بنظام "الطغمة" العسكرية الماركسية، تحت زعامة هيلا مريام الذي آثر الفرار من البلاد. 

بعد ثلاثة أيام من السيطرة على العاصمة استطاع المتمردون استعادة النظام، وهنا تذكر هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أن الجنرال المنتصر، اتخذ منزلا قرب فندق "هيلتون" مقرا مؤقتا له، وكانت هذه المرة الأولى التي ينام فيها غبريتنساي على سرير مجهز به ملاءات منذ نحو 15 عاما. 

جيش جديد 

بموجب الانتصار والإطاحة بالنظام، أصبح غبريتنساي، أهم العسكريين في البلاد، ومنح رتبة جنرال، وشغل منصب رئيس أركان قوات الدفاع الوطني الإثيوبية، وسرعان ما قام بتعيين رفقائه من قادة جبهة تحرير تيغراي، كرؤساء للكتائب والأفرع، مشكلين نواة القوات المسلحة الجديدة. 

وهنا برزت أول الأصوات المعارضة للقائد الجديد، متهمة إياه بتأسيس جيش لم يكن متوازنا عرقيا، لأن أبناء تيغراي يشكلون 6 بالمئة فقط من السكان، بينما يمثلون غالبية القوات المسلحة، ومتفوقين على عرقيات أخرى مثل الأمهرة والأورومو. 

في تلك الفترة، حرص قائد الجيش على أخذ هدنة واستراحة محارب، وتذكر حلمه القديم بالدراسة الأكاديمية، وبالفعل عاد إلى الدراسة في الجامعة للحصول على ماجستير إدارة الأعمال عن طريق المراسلة، في الجامعة المفتوحة بالمملكة المتحدة.

قوة غبريتنساي وهيمنته وثقافته العالية المميزة عن أقرانه من السياسيين والعسكريين على سواء، دفعت به للعب دور أكبر من مجرد كونه رئيسا لأركان الجيش، داخل حدود الدولة. 

بل اندفع إلى محاولة ضبط منطقة القرن الإفريقي التي كانت تعاني من اضطرابات وحروب أهلية جامحة، ووجود تنظيمات مسلحة متمردة.

وفي عام 1996، أرسل الجنرال قواته لمداهمة قاعدة خاصة بتنظيم القاعدة في الصومال، وفي نفس الوقت أرسل سرا قوات عبر الحدود إلى السودان لدعم مناهضي حكم الرئيس عمر البشير، في منطقة الجنوب، وتحديدا زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق.

مرحلة الخفوت 

بدأت التباينات والاختلافات تظهر بين الجنرال غبريتنساي، ورئيس الوزراء آنذاك ميليس زيناوي، بسبب الحرب الإثيوبية الإريترية، والتي ستكون أحد أهم عوامل الإطاحة به لاحقا. 

ففي عام 1998 اندلعت الحرب ضد إريتريا، وكان غبريتنساي يرى أن الزعيم الإريتري أسياس أفورقي، يمثل تهديدا جادا على إثيوبيا، ولابد من سحقه وقواته. 

وبالفعل بدأ غبريتنساي، التخطيط للحرب، وقاد العملية العسكرية التي خلفت أكثر من 80 ألف قتيل من الجانبين.

ولكنه في النهاية انتصر خلال يونيو/حزيران 2000، عندما نجح في تحطيم الدفاعات الإريترية، عبر هجوم مفاجئ، واندفعت قواته عبر الحدود، قاصدة العاصمة أسمرة. 

لكن رئيس الوزراء زيناوي أمره بالتوقف، وعدم اجتياح أسمرة، قائلا: "أهداف الحرب تحققت، وإريتريا هزمت".

بعدها دبت الخلافات داخل الجيش والنظام السياسي، حول أهداف الحرب وخسائرها ومدى جدواها، وبشكل مفاجئ للجميع أقال زيناوي، زميله غبريتنساي من منصب رئيس الأركان، وأبعده عن العمل العسكري تماما. 

خارج الخدمة

كان صعبا على رجل قضى جل حياته في التخطيط العسكري، والمعارك المتواصلة أن يصبح مواطنا مدنيا عاديا، فحاول أن يؤدي مجموعة من الأدوار الاستشارية، خاصة عندما طلبت منه المملكة المتحدة مساعدة حكومة جنوب السودان المستجدة، حول إصلاح الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش، وهو المشروع الذي فشل لأسباب، أبرزها: الاقتتال الأهلي. 

قرر غبريتنساي أخيرا العودة إلى مسقط رأسه في بلدة رايا جنوبي تيغراي، وأقام هناك مشروعا تجاريا للزراعة المحمية، بالإضافة إلى مصنع للجعة. 

على مدار السنوات التالية، ابتعد غبريتنساي عن الاشتباكات السياسية، واكتفى بإدارة أعماله الخاصة حتى عام 2018، عندما رحب بتعيين آبي أحمد رئيسا للوزراء. 

هذا الترحيب أغضب زملاءه السابقين في جبهة تحرير شعب تيغراي، خاصة وأن آبي أحمد ينتمي إلى عرقية الأورومو ذات الكثافة العددية في البلاد، والتي على خلاف حاد مع الجبهة. 

غبريتنساي كانت رؤيته تتمحور حول إمكانية الحل وإيجاد سبل للسلام بين الفرقاء، وفي 2019، انضم إلى مجموعة غير رسمية كانت تحاول التوسط بين آبي أحمد وقادة الجبهة، لكنه انسحب بعد ذلك، قائلا: إن "آبي أحمد ليس جادا". 

الجنرال العائد 

كانت مشاعر العداء والكراهية تتصاعد بقوة ضد شعب تيغراي، في العاصمة أديس أبابا، وظهر أن آبي أحمد وجيشه عازمون على الحل العسكري لمواجهة جبهة تيغراي، واجتياح إقليمهم في القريب العاجل. 

لمح غبريتنساي بحكم خبرته، الوضع المستقبلي الخطير، وعاد أدراجه مسرعا إلى ميكيلي عاصمة تيغراي. 

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تحققت توقعات الجنرال المخضرم واندلعت الحرب مع اجتياح الجيش الإثيوبي للإقليم الشمالي، ما أدى إلى انضام غبريتنساي إلى المقاومة المسلحة، وحرص على تنظيم توافد الشباب للانضمام إلى جبهة القتال.

انضمامه جاء بعد الذعر الذي عم إثر "الفظائع" التي ارتكبت بحق الشعب من قبل الجيش الإثيوبي، وقوات آبي أحمد، كما عاد قدامى المحاربين إلى حمل السلاح، بما في ذلك العديد ممن انشقوا عن الجبهة منذ سنوات، كان كل ذلك تحت إشراف وعمل غبريتنساي

جرت ترقية غبريتنساي إلى منصب القيادة المركزية للمقاومة، وتولى المسؤولية عن الشؤون العسكرية كاملة. 

وفي يناير/كانون الثاني 2021، قال واصفا الأوضاع الصعبة: "كنا على وشك مواجهة الهزيمة الماحقة"، كنا فارين ومحاصرين بين تضاريس جبلية في جنوب تيغراي، وكان الكثير من مقاتلينا اليافعين يسيرون حفاة ولم يكن لديهم من الأسلحة سوى تلك التي تحمل في اليد".

كان مذهلا أن يستطيع غبريتنساي بناء جيش من جديد، في ظل حرب طاحنة وهجوم مفزع من الجيش الإثيوبي النظامي، وكانوا يتدربون وينظمون ويقاتلون في نفس الوقت، وحدثت المفاجأة بتمكن جبهة تحرير تيغراي من كسر الحصار، وصدمت القوات الإثيوبية بهجوم مضاد شرس. 

وبحلول مايو/أيار 2021، رأى الجنرال غبريتنساي والقادة الآخرون أنهم حققوا التكافؤ مع خصومهم، وفي ذلك التوقيت استعادت قوات تيغراي السيطرة على معظم أجزاء إقليمها، وشرعوا في التوغل نحو إقليمي العفر ثم الأمهرة، وأصبحت العاصمة أديس أبابا ضمن أهدافهم المحتملة. 

وفي 17 يونيو/حزيران 2021، أعلن الجنرال غبريتنساي أن قواته استعادت خلال خوضها سلسلة من المعارك، سيطرتها على الأراضي ودمرت ثمانية فرق من الجيش الإثيوبي "أي نصف قوته القتالية". 

وهو الأمر الذي أدى إلى إصدار الحكومة الإثيوبية مذكرة توقيف بحق غبريتنساي وغيره من قادة تيغراي واتهمتهم بـ"الخيانة"، تحت دعوى أنهم بدؤوا الحرب بتنظيم هجوم على قواعد عسكرية فيدرالية في تيغراي.

لكن ما فعله الجنرال غبريتنساي، وفق خبراء، يضعه في مصاف أهم القادة العسكريين في التاريخ الإثيوبي، كما أنه الوحيد الذي استطاع هزيمة الحكومة المركزية مرتين، قديما وحديثا.