ليس فقط بالصواريخ.. هكذا يقتل الاحتلال أهل غزة عبر النفايات

خالد كريزم | a month ago

12

طباعة

مشاركة

يعيش الثلاثيني محمد عيد “أياما من الجحيم” في دير البلح وسط قطاع غزة بفعل تراكم النفايات ووصول مياه الصرف الصحي إلى مكان قريب من خيمته.

وهذا الشاب الذي نزح مع عائلته قبل شهور من شمال القطاع، أصيب طفلاه بنزلات معوية متكررة كما تعرضا مع بقية أفراد الأسرة إلى قرصات شديدة من البعوض.

حجم النفايات

وتتكدس جبال من النفايات في قطاع غزة مع استمرار العدوان الإسرائيلي الذي أحال جميع مظاهر الحياة الطبيعية إلى دمار وخراب منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

فإلى جانب الركام الهائل، تتراكم مئات الآلاف من الأطنان من النفايات في القطاع المحاصر لعدم قدرة البلديات على إزالتها والتخلص منها، لتبدأ في نشر الأخطار والأمراض.

ويقول عيد لـ"الاستقلال" إن عائلته كبقية أهالي القطاع لم تعرف المنظفات ولم تغسل أيديها بالصابون منذ الأشهر الأولى للعدوان بسبب نفاده ومنع الاحتلال إدخاله.

وأشار إلى أن غزة لها وجهان اليوم يميزانها، فعند النظر إلى أي نقطة فيها، تجد الركام ثم تأتي النفايات في الدرجة الثانية.

ويقول: “من لا تقتله الغارات المتواصلة، فسيموت ببطء عبر انتشار الأمراض إلى جسده، هذا عقاب إسرائيلي لكل سكان القطاع”، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.

وفي مدينة غزة وحدها، يتكدس ما يزيد عن 150 ألف طن من النفايات، بحسب ما أعلنت بلدية المدينة في 31 أغسطس/آب 2024.

أما في شمال القطاع، فيتراكم نحو 60 ألف طن من النفايات في الشوارع وأمام 60 مركز إيواء، وفق ما أعلن اتحاد بلديات تلك المنطقة خلال مؤتمر صحفي في 26 أغسطس.

ولا توجد تقديرات حديثة لحجم النفايات المتراكمة في جنوب ووسط قطاع غزة، مع تواصل تحذير بلدياتها من كوارث كبيرة وأمراض معدية.

وخاصة مع تناقص المساحات الآمنة التي يمكن للنازحين نصب خيامهم فيها والإقامة بها وسط قطاع غزة.

إذ تبدو أطنان النفايات ومياه الصرف الصحي وكأنها تحاصرهم في خيامهم في ظل انتشار الأمراض المعوية والجلدية.

وأعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في 13 يونيو/حزيران 2024، تراكم أكثر من 330 ألف طن من النفايات في مناطق مأهولة بالسكان بجميع أنحاء قطاع غزة، محذرة من مخاطر بيئية وصحية "كارثية".

ولم تنشر الوكالة الأممية منذ ذلك الحين أي تحديثات فيما يخص حجم النفايات المتراكمة في القطاع.

لكنها واصلت التحذير في بياناتها من خطر قربها من أماكن إيواء النازحين، وهو ما يثير مخاوف من انتشار المزيد من الأمراض.

تدمير ومنع

ويعود هذا التراكم إلى سببين رئيسين، أولهما التدمير الواسع لآليات البلديات التي تعمل على جمع النفايات، وثانيهما الانتشار الواسع لجيش الاحتلال في غزة وتقليصه إمكانية العمل والحركة، ما يمنع إزالتها.

وبلغ عدد الآليات التي دمرها الاحتلال نحو 126 بنسبة 80 بالمئة من آليات بلدية مدينة غزة لاسيما الثقيلة منها والمستخدمة في جمع النفايات وصيانة شبكات المياه ومعالجة إشارات الصرف الصحي.

أما في شمال القطاع، فقد دمر الاحتلال عدد 77 ما بين آليات لجمع النفايات وشاحنات ثقيلة بما نسبته 95 بالمئة منها، بحسب ما قال رئيس بلدية بيت لاهيا علاء العطار خلال المؤتمر الصحفي السابق الإشارة إليه.

وأوضح العطار أن الحرب الإسرائيلية دمرت أكثر من مليون ونصف متر مربع من الطرق والشوارع في شمال غزة، ما يصعب جمع النفايات، بالإضافة إلى تدميره 35 بئر مياه و5 مضخات صرف صحي رئيسة.

كما لا تتمكن طواقم البلديات في قطاع غزة من الوصول إلى مكبات النفايات الرئيسة شرق القطاع مع استمرار العدوان.

وهو ما دفعها إلى إنشاء مكبات مستحدثة غالبيتها تحاصر خيام النازحين، مما يصعد خطر هذه الكارثة البيئية على حياتهم.

وفي 18 أغسطس، حذرت بلدية دير البلح وسط قطاع غزة، من تبعات القرار الأخير للاحتلال بإخلاء عدد من الأحياء في المدينة وتقليص مساحة المنطقة الإنسانية من 30 إلى 20 كيلو ما أدى لازدحام رهيب وتكدس مخيف للأهالي في شريط ضيق وسط الحر الشديد.

وأكدت تكدس النفايات في الشوارع والطرقات ومراكز الإيواء لعدم مقدرة آليات البلدية على الوصول إلى المكب الذي خصصته لها في الحرب بسبب وجوده في المنطقة التي طلب الاحتلال إخلاءها.

وهو ما سيترتب عليه انتشار الأوبئة والأمراض خاصة مع اكتشاف أول حالة مصابة بفيروس شلل الأطفال، بحسب بيان البلدية.

فيما قالت بلدية غزة إن طواقمها لا تستطيع الوصول للمكب الرئيس في منطقة جحر الديك (شرق) منذ بداية العدوان مما تسبب في تراكم النفايات في مراكز المدينة وفي محيط مراكز الإيواء والمراكز الصحية.

أزمة قديمة

وأزمنة النفايات في قطاع غزة لم تكن وليدة العدوان، حيث تعيق سلطات الاحتلال عمليات تطوير المكبات منذ سنوات.

ويوجد في القطاع نوعان من المكبات، مركزية وتتمثل بمكبي جحر الديك والفخاري في المناطق الشرقية.

أما النوع الثاني فهي مكبات مؤقتة وعشوائية غير مؤهلة، وتضطر البلديات إلى التخلص من النفايات الصلبة فيها، ولكن فترة الاعتماد عليها طالت منذ ما قبل العدوان.

وهو ما حوّلها إلى مكاره صحية وخطر حقيقي على البيئة والصحة العامة، ويبلغ عددها في مختلف مناطق قطاع غزة 8 مكبات.

ومنذ ما قبل العدوان، حالت توسعة المكب الرئيس في منطقة جحر الديك شرق غزة، بالرغم من تكدس النفايات داخله، حيث منعت قوات الاحتلال الوصول لمسافة 300 متر من السياج الفاصل.

كما عوقت على مدار السنوات الماضية إنشاء مكبات أخرى في المناطق الحدودية البعيدة نسبيا عن الأماكن السكنية في القطاع. 

وقالت دراسة نشرها مركز الميزان لحقوق الإنسان في سبتمبر/أيلول 2023، الشهر السابق لبدء العدوان، إن سلطات الاحتلال تمنع دخول الآليات اللازمة للعمل في مكبات النفايات.

وأبرزها جرافات البلدوزر كبيرة الحجم (9 D) التي تدفع كميات النفايات وتسويها بالأرض، إضافة إلى آليات ضغطها المعروفة باسم “المدحلة”.

كما تمنع دخول آليات جمع النفايات التي تستخدمها البلديات والصناديق الكبيرة (الرمثا) وسيارات الجمع (المكبس).

وأيضا منعت دخول الرافعات علما أنها بحاجة للتغيير في مكبي الفخاري وجحر الديك.

وهذا إضافة إلى منع إدخال قطع الغيار اللازمة لصيانة الآليات والمعدات، الخاصة بمنظومة جمع النفايات الصلبة والتخلص منها في قطاع غزة.

وأكثر من ذلك، تعيق سلطات الاحتلال تنقل الطواقم الفنية لغرض رفع الكفاءة الفنية والمشاركة في المؤتمرات سواء بالضفة الغربية أو خارج البلاد.

أضرار كارثية

ولم يعد قطاع غزة المحاصر يعجّ بأنقاض مبانٍ مدمرة فحسب، بل أصبح مرتعا للنفايات المتراكمة، التي تهدد بانتشار الأوبئة والأمراض المعدية.

وقد أفادت أونروا في 2 أغسطس، بتسجيل نحو 40 ألف حالة إصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) في ملاجئها ومراكزها الصحية منذ أكتوبر. 

ويستعد شركاء الصحة لأسوأ سيناريو محتمل لتفشي شلل الأطفال عقب تسجيل أول إصابة مؤكدة به في قطاع غزة لطفل عمره 10 شهور.

وأعلنت وزارة الصحة بغزة، في الثاني من سبتمبر/أيلول 2024، تمكنها من تطعيم نحو 246 ألف طفل خلال يومين من حملة مستمرة دشنتها في المحافظة الوسطى بالقطاع.

وحسب طواقم طبية مشرفة على عمليات التطعيم في مراكز مدينة دير البلح (وسط)، ظهرت علامات الإعياء وسوء التغذية على المئات من الأطفال الذين حصلوا على التطعيمات بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها جراء الحرب المتواصلة منذ 11 شهرا.

وعلى مدى أشهر الحرب، حذرت منظمات صحية وحقوقية من انتشار الأمراض والأوبئة في القطاع جراء نقص الأدوية والتطعيمات، والظروف الصحية والمعيشية الصعبة التي يمر بها النازحون.

ويشكو النازحون من انتشار الأمراض المعوية والجلدية بسبب تراكم النفايات وتسرب مياه الصرف الصحي ومنع الاحتلال إدخال المنظفات وشح المياه.

وقالت المتحدثة باسم "أونروا" لويز ووتريدج: "لا يقتصر الأمر على الروائح الكريهة (للنفايات) فحسب، بل تؤدي إلى انتشار الأمراض والآفات مثل الفئران والجرذان والبعوض".

ويأتي ذلك في ظل فقدان بعض الأدوية التي تسهم في علاج الأمراض الجلدية والمعوية المنتشرة.

وتقول وزارة الصحة في غزة إن 70 بالمئة من الأدوية مفقودة كما أن علاجات تخصصية تكاد تنفد من مخازنها.

وعن إجراءاتهم، قال المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه: “نتعاون مع لجان الأحياء والمجموعات الشبابية وبالشراكة مع بعض المؤسسات لجمع بعض النفايات من المكبات العشوائية المنتشرة في المدينة”.

واستدرك في حديث لـ"الاستقلال": “لكن للأسف يتم حاليا نقل النفايات إلى سوق فراس وسط المدينة بسبب عدم قدرة الطواقم على الوصول إلى المكب الرئيس في المنطقة الشرقية".

 وذكر أن هذا المكان أصبح مكبا عشوائيا كبيرا وهو غير مهيأ وغير صحي وغير مناسب.

وتحاول البلدية تركيز العمل في المناطق التي يوجد فيها السكان بشكل كبير، ولذلك فإن المناطق الحدودية والقريبة من وجود آليات الاحتلال مستثناة من أي أعمال، بحسب عاصم.

وتابع: “لدينا قائمة طويلة من الاحتياجات لكن أهمها توفير الآليات الثقيلة اللازمة لجمع النفايات، وتوفير كميات كافية من الوقود والسماح لطواقم البلدية بالوصول إلى المكب الرئيس شرق المدينة”.

وخلصت ورشة عمل نظمتها نقابة المهندسين الأردنيين في 12 أغسطس 2024 وضمت العديد من الخبراء إلى أن تراكم النفايات يهدد الأمن الغذائي ويسبب تدهورا للنظام البيئي والصحي، وأن غزة تحتاج إلى قرابة 156 مليون دولار لإعادة ترميم قطاع النفايات.