بعد غزة.. لماذا صنفت إسرائيل الضفة "ساحة القتال الثانية" وليس حزب الله؟

“الحكومة المتطرفة توظف العمليات العسكرية في الضفة لتحقيق المشروع الاستيطاني”
رغم صراخ إسرائيل من هطول صواريخ ومسيرات "حزب الله" عليها، وتزايدها لتصل إلى 1307 صواريخ ومسيّرة في أغسطس/ آب 2024 فقط، والحديث المتكرر عن نقل الحرب من غزة إلى “حزب الله”، لم تعلن إسرائيل أن لبنان هي ثاني أهم جبهة بعد غزة.
وعلى العكس، كشفت صحيفة “إسرائيل هيوم” في 3 سبتمبر/أيلول 2024 أن جيش الاحتلال قرر تصنيف الضفة من الآن فصاعدا على أنها "ساحة قتال ثانية، مباشرة بعد غزة"، بعدما كانت تُعرف على أنها “ساحة قتال ثانوية منذ بداية” العدوان على القطاع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وأكدت الصحيفة العبرية أن تصاعد أعمال المقاومة في الضفة الغربية والخوف من العمليات الاستشهادية، "دفع المؤسسة الأمنية والعسكرية إلى تغيير كبير في سياستها تجاهها".
قرار الجيش الإسرائيلي رفع خطر الضفة إلى “المستوى الثاني” الذي يهدد دولة الاحتلال بعد غزة، جاء بعد رد "حزب الله" الانتقامي الضعيف وعدم مشاركة إيران فيه، وتأخر ردها الانتقامي الذي تتوقع صحف عبرية أن يكون رمزيا مثل رد حزب الله.
صحف عبرية أكدت أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأركان حربه عدوا هذا الرد الضعيف من محور إيران "جواز مرور" نحو التصعيد في الضفة، وعدها الجبهة الثانية، الأهم بعد غزة في ظل تراجع تهديد "حزب الله" واقتصاره على "قواعد الاشتباك" الروتينية.
لماذا الضفة؟
لم تعد الضفة الغربية "ساحة ثانوية" بل "ساحة قتال" مباشرة بعد غزة، و"تشكل خطر كبيرا على إسرائيل"، بموجب قرار جيش الاحتلال في 3 سبتمبر، وهو “أول قرار حربي من نوعه بشأن الضفة” منذ بدء إبادة القطاع.
قرار الاحتلال عد الضفة الغربية "ساحة عمليات قتالية ثانية" وتغيير تعريفها من "ساحة ثانوية" إلى "ساحة قتال ثانية بعد غزة" مباشرة، يعني أن إسرائيل باتت ترى أن جنوب لبنان "ليست ساحة قتال حقيقية".
يعني أيضا توقع "تنفيذ سلسلة من العمليات في جميع أنحاء الضفة على غرار العملية في جنين"، حسبما نقلت صحيفة "إسرائيل هيوم" عن المؤسسة الأمنية والعسكرية.
وأن العملية العسكرية التي استغرقت 10 أيام وانتهت في 6 سبتمبر 2024، وأطلق عليها الاحتلال اسم "مخيمات الصيف" في جنين وطولكرم، وكانت "أطول عملية للجيش الإسرائيلي منذ "السور الواقي"، "ستستمر في الفترة القريبة".
أما لماذا الضفة ساحة قتال رئيسة ثانية، ولها الأولوية على ساحة حزب الله، فيرجع إلى عدة أسباب وفق تقارير وتقديرات إسرائيلية.
أولها، أنها ملاصقة لدولة الاحتلال وتخطط إسرائيل لضمها بالفعل، وخطط التهويد قائمة على قدم وساق في ظل الحكومة اليمينية المتطرفة التي تعد "هذا الوقت هو الأنسب وتنفيذ مخطط الضم".
والثاني، أنه لو تم السماح لما جرى من تراكم في السلاح والقدرات القتالية في غزة بالتكرار في الضفة، فستنهار دولة الاحتلال بسبب التداخل بين أراضي فلسطين المحتلة 1948 وأراضي الضفة الغربية والقدس.
والثالث، إحباط العمليات الاستشهادية التي قد تنطلق من الضفة وتحيل إسرائيل إلى خراب على غرار "عمليات “يحيي عياش” في التسعينيات، خاصة بعد امتلاك المقاومة قدرات تسليح أكبر وتنفيذ عمليات انطلاقا من الخليل.
وأكد مسؤولون أمنيون في دولة الاحتلال أن مسألة العبوات الناسفة كانت هي المحرك الأساسي لإطلاق الهجوم على الضفة بسبب خطورتها، حسبما ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي في 28 أغسطس/آب 2024.
ونقلت عن المؤسسة الأمنية للاحتلال أن "الحملات السابقة لم تحقق نتيجة، وقررنا أن نفعل شيئا يغير الواقع في الضفة، ولا نريد أن تصبح الضفة جبهة تعرقلنا من القتال في غزة ولبنان، لذا حركنا لواءين من الجيش لحصار الضفة".
والرابع أنه بدون قمع الضفة والسيطرة عليها تماما، سيفشل مخطط التهويد الذي يجري حاليا هناك بقيادة اليمين الصهيوني وتوسيع البؤر الاستيطانية تدريجيا، وبناء الهيكل في الحرم القدسي.
فهذه هي أهداف العدوان الصهيوني الموسع ضد الضفة الغربية، كما يوضح تقرير لصحيفة "هآرتس".
وهو ما يفسر سر الإخفاء المتعمد للضفة من خريطة فلسطين التاريخية التي كان يستعرضها نتنياهو لدولة الاحتلال.
المشروع الاستيطاني
وكشف تقرير لمنظمة "يكسرون الصمت" الإسرائيلية بعنوان "الانقلاب الصامت"، ترجمه "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية" في 27 أغسطس 2024، كيف يتم سرقة الضفة الغربية المحتلة من خلال مشروع الاستيطان والتهويد.
التقرير كشف أن المشروع الاستيطاني في الضفة يمر بتحولات متسارعة، منذ تشكيل الائتلاف الإسرائيلي الحاكم في 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، وهي تحولات تستند الى أجندة يمينية استيطانية تقوم على ثلاثة مبادئ.
ضم الأراضي (ج) وفرض تدريجي للسيادة الإسرائيلية الشاملة عليها، ورفع عدد المستوطنين إلى مليون نسمة خلال العقدين القادمين، وإدارة الجيش الإسرائيلي للأرض المحتلة، ضمن متطلبات المرحلة الجديدة من النمو الاستيطاني.
وطبقاً للتقرير، حولت إسرائيل طبيعة الحكم في الضفة الغربية ونقلته من صيغة احتلال عسكري عليه التزامات تجاه السكان الواقعين تحت الاحتلال بموجب القانون الدولي إلى نظام تدير فيه المؤسسات الحكومية المدنية الإسرائيلية معظم جوانب الحياة الفلسطينية في الضفة، وهي مؤسسات مهمتها الولاء للإسرائيليين.
وحين جرى اتفاق تقاسم السلطة بين الوزيرين في وزارة الدفاع، يوآف غالانت وبتسلئيل سموتريتش، في فبراير/ شباط 2023، تم منح سموتريتش معظم الصلاحيات على مختلف جوانب الحياة المدنية في الضفة الغربية، ضمن خطة تغيير طبيعة السيطرة عليها.
ويقول التقرير إن تغيير نظام السيطرة في منطقة (ج) والتوسع الاستيطاني في الضفة يستهدف "تعزيز المأسسة الكاملة والدائمة للسيادة الإسرائيلية في المناطق المحتلة وإحباط إمكانية إقامة دولة فلسطينية في المستقبل".
ويوضح أن ثمة اتجاها إسرائيليا يسعى إلى "إبطال فكرة الدولة الفلسطينية وتآكل نموذج أوسلو"، الذي يصور ضمنا أن غالبية الضفة الغربية سيتم تخصيصها لتكون في المستقبل تحت سيطرة الدولة الفلسطينية.
وبموجب اتفاقات أوسلو لا يجوز لإسرائيل العمل في المنطقتين (أ) و(ب) إلا لأغراض أمنية، بينما تقع الشؤون المدنية تحت السيطرة الفلسطينية.
في حين أن المنطقة (ج)، التي تشكل 60 بالمئة من الضفة الغربية والمخصصة للدولة الفلسطينية المستقبلية، تقع تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية.
ومع ذلك، انخرط المستوطنون منذ 10 سنوات في حملة لإعادة لتأطير البناء الفلسطيني في المنطقة (ج).
هدف عاجل
عقب سلسلة العمليات الأخيرة التي شهدتها الضفة الغربية من جانب المقاومة وخروج أول عملية استشهادية من الخليل مطلع سبتمبر 2024، وقتل جندي و3 من الشرطة الإسرائيلية، بدأت الأجهزة الاستخبارية والعسكرية الصهيونية حالة استنفار كبيرة.
وكان التصور الإسرائيلي، أن حملة الاعتقالات (10 آلاف) والاغتيالات والقتل (800 فلسطيني) التي نفذها الاحتلال في الضفة، بخلاف منع أي تعاطف مع غزة، والتعاون الأمني للسلطة الفلسطينية، أجهض تضامن الضفة مع غزة، وفق صحف عبرية.
لكن نشاط المقاومة المتصاعد، رغم قصف الضفة بالطائرات الحربية والمسيرة والاقتحامات المستمرة، دفع الجيش الإسرائيلي لوضع خطة بحيث يأتي أكتوبر 2024 (شهر الأعياد اليهودية)، و"الضفة أكثر هدوءا"، وفق صحيفة "إسرائيل هيوم".
وكانت التوصية في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية هي "شن عمليات واسعة النطاق، مع التركيز على مصادرة الأموال الممولة للعمليات في كامل الضفة، وتقويض حماس كهدف"، وفق صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 4 سبتمبر 2024.
لذا دعت وزيرة المستوطنات، أوريت ستروك، في 3 سبتمبر، مجلس الحرب "الكابينت" السياسي الأمني، إلى "اتخاذ إجراءات طارئة، بما في ذلك إعلان حالة الحرب في مدن ومستوطنات الضفة".
وطالب وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، في رسالة بعثها إلى نتنياهو، في 6 سبتمبر 2024، أن "تشمل أهداف الحرب، القضاء على حماس والتنظيمات الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية".
وبرر ذلك بـ"الارتفاع الحاد في محاولات المنظمات الإرهابية المختلفة (المقاومة) بتنفيذ عمليات تفجير بوسائل مختلفة، وقتل ثلاثة أفراد شرطة إسرائيليين في معبر ترقوميا".
وجاءت رسالة بن غفير في موازاة نفي الجيش الإسرائيلي لأنباء عن انتهاء عملياته العسكرية في شمال الضفة الغربية، وخاصة في جنين وطولكرم، وانسحاب قواته منها، وإعلانه أن "القوات تواصل العملية العسكرية حتى تحقيق أهدافها".
دلالات القرار
في مقالها الافتتاحي يوم 6 سبتمبر/أيلول 2024، قالت صحيفة "هآرتس" العبرية، إن "التركيز الإسرائيلي على الضفة معناه أن تل أبيب قررت تحويل الضفة الغربية إلى قطاع غزة آخر".
وقالت إن "أساليب العمل (في الضفة وغزة) متشابهة، والأسلحة متشابهة أيضاً والأهداف متشابهة، ولن تتأخر النتائج: إذ ستستيقظ إسرائيل قريباً على غزة أخرى، ولكن هذه المرة على حدودها الشرقية، بكل ما يعنيه هذا من معنى".
ونقلت الصحيفة عن خبراء ومطلعين قولهم إنه منذ بدء العدوان على غزة غيّرت إسرائيل سياستها في الضفة، وسكانها الفلسطينيون يقفون حاليا أمام واقع جديد، أقسى من سابقه.
وبعد إلغاء كل تصاريح العمل لأهالي الضفة في الأراضي المحتلة، وتدهور الوضع الاقتصادي أكثر فأكثر، بدأ الجيش الإسرائيلي يتخذ أساليب قتالية جديدة، بعض منها لم يكن يطبق إلا في غزة وفي لبنان.
فالطائرات الحربية والمسيرات أصبحت الأداة الأساسية ضد "المطلوبين (للاحتلال) والأبرياء" معا، وبكميات لم يشهد لها مثيل منذ الانتفاضة الثانية.
ويشير تحليل لموقع "صدارة" الفلسطيني في 4 سبتمبر 2024 إلى أن هذا التوجه الإسرائيلي لجعل الضفة "جبهة قتال ثانية"، بدلا من حزب الله، معناه إقرار ضمني بأن الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية المعروفة باسم "جز العشب" قد فشلت.
ونجحت مجموعات المقاومة في الانتشار بشكل أفقي شمال الضفة بعد أن كانت تتركز في مخيم جنين، ورغم الضربات القوية التي تلقتها تلك المجموعات فقد تمكنت من الانتشار نحو مناطق جديدة، مثل طولكرم والأغوار ونابلس وغيرها.
كما أن هذا التصعيد من قبل الاحتلال يشير إلى خشيته من انتقال نموذج شمال الضفة لجنوبها، بعد العملية المزدوجة وعملية حاجز ترقوميا في الخليل والهجوم الذي تم إحباطه في عطيرت قرب رام الله، وفق الموقع الفلسطيني.
القرار له أيضا علاقة بـ"صدمة الفشل الأمني في السابع من أكتوبر التي ما زالت تحكم عقلية الاحتلال الأمنية، وتجعله يميل لاتخاذ أقصى درجات الفعل الاستباقي في مواجهة أي تهديدات محتملة، لتلافي تكرار الخلل في النظرية الأمنية الإسرائيلية، ومحاولة استعادة قوة الردع في الساحات كافة.
إضافة لذلك، فإن تحويل الضفة إلى ساحة قتال "سيعمل على تقويض السلطة الفلسطينية بشكل أكبر، وسيطلق يد العنان للاستيطان وخطط الضم والتهجير التي يسعى لها أعضاء الحكومة الحالية المتطرفة".
لكن لهذا القرار بتحويل الضفة إلى ساحة قتال له سلبياته، فهو يعني فشل إسرائيل في تحييد الضفة عن ما يقع بغزة، وسيثقل كاهل الجيش الذي سيعطي لها أولوية قتالية أكبر في ظل قتاله على ثلاث جبهات رئيسة (غزة والضفة وشمال دولة الاحتلال).
نقطة تحول
ويزعم الكاتب المتطرف يوعاز هندل في مقال بصحيفة "إسرائيل هيوم" في 5 سبتمبر 2024 أن "تصنيف الضفة جبهة ثانية للحرب يرجع إلى أن هناك تدخلا إيرانيا من أجل إعادة انتفاضة الانتحاريين، ولا وسيلة لمنع ذلك سوى بالرد العسكري العنيف".
لكن يقول إن الوقاية من خطر الضفة الغربية يتطلب أولا "تدفيع حزب الله وإيران ثمنا، لأن خطرهما لا يقتصر على الضفة ولكنه أدى لإجلاء عشرات الآلاف من الإسرائيليين عن منازلهم لمدة سنة تقريبا".
ويدعي أن السبيل إلى تحقيق ذلك، يتم بتوجيه إنذار إلى حزب الله كي يسحب قواته إلى ما وراء نهر الليطاني، وعدم دفن حكومة نتنياهو رأسها في الرمال.
و"إذا لم يستجب تبدأ الحرب رغم أن إسرائيل ستتضرر منها لأن حزب الله يمتلك عدداً كبيرا من الصواريخ التي جمعها طوال أعوام، لكن دفن الرأس في الرمل لا يساعد كثيرا".
ويعتقد المحلل العسكري بالإذاعة الرسمية "كان 11"، إيال عليمه، أن التصعيد الإسرائيلي بالضفة يعود لسلسلة عمليات المقاومة المسلحة وظهور السيارات المفخخة، وإعلان حماس والجهاد الإسلامي عودة العمليات التفجيرية داخل العمق الإسرائيلي، بعد غياب لأكثر من 20 عاما، منذ الانتفاضة الثانية.
وقال عليمه لموقع "الجزيرة نت" في 5 سبتمبر 2024، إن الضفة ومنذ بدء العدوان على غزة كانت تُصنف "نقطة قتال" وليس "جبهة حربية" بالمفهوم التقليدي.
وأضاف أن تصعيد جيش الاحتلال عملياته هناك يرجع إلى "القلق من تحول الضفة إلى ساحة حرب على غرار قطاع غزة، بعد العملية التفجيرية في تل أبيب ما عد نقطة تحول في التعامل العسكري مع الضفة ومخيماتها".
المحلل السياسي، عكيفا ألدار، يطرح سببا آخرا لهذا التصعيد، حيث يؤكد أن حكومة اليمين المتطرف "توظف العمليات العسكرية في الضفة من أجل تحقيق المشروع الاستيطاني وضمها للسيادة الإسرائيلية".
وقال ألدار لـ"الجزيرة نت" إن هذا هو الهدف المعلن للعديد من الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي اليميني.