تركيا أم روسيا.. من يملأ فراغ الانسحاب الأميركي في شمال شرقي سوريا؟
.jpg)
رغم غموض مسألة الانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا، إلا أن الدول الفاعلة في الملف السوري تحث الخطى مبكرا لترتيب مصالحها، في حال أي فراغ "مفاجئ" بالمنطقة على غرار أفغانستان.
على رأس هذه الدول تأتي تركيا وروسيا، اللتان تسيران على تنسيق عال في سوريا على أكثر من صعيد، خاصة العسكري والسياسي.
وركزت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مدينة سوتشي الروسية في 29 سبتمبر/أيلول 2021 ولقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين، على مناقشة ملف مناطق شمال شرق سوريا التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، المكونة من أغلبية كردية مدعومة عسكريا ولوجستيا من واشنطن.
وتشكل قوات "ي ب ج" العمود الفقري لـ"قسد"، وهي الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، والأخير هو الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني المتشدد (بي كا كا) الموجود جنوبي تركيا وشمالي العراق والمصنف كمنظمة إرهابية لدى أنقرة.
وخلال العقد الأخير، عملت أنقرة على منع مشروع إنشاء كيان انفصالي في شمال سوريا، أي على الضفة المقابلة من الحدود الجنوبية التركية.
حراك تركي
وعقب عودته من سوتشي، وصف أردوغان محادثاته مع بوتين بأنها كانت "صريحة ومثمرة"، قائلا: "بحثنا أن الوقت حان لتطبيق حل نهائي ومستدام في سوريا، وبالدرجة الأولى في إدلب، وحددنا خارطة طريق سيعتمد عليها وزراؤنا للدفاع والخارجية".
وأشار الرئيس التركي إلى أنه ذكر بوتين بوجود مكتب لقوات " ي ب ج" في موسكو، مؤكدا لنظيره الروسي على وجوب "تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع موسكو بشأن إنهاء وجود تنظيم (بي كا كا) الإرهابي بسوريا".
وفي الوقت نفسه وجه أردوغان انتقادات شديدة اللهجة إلى إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لما تقدمه من دعم لـ"قسد"، قائلا إنه "على الولايات المتحدة مغادرة هذا المكان (شمال شرق سوريا) وتركه للشعب السوري عاجلا أم آجلا".
ولم يكتف الرئيس التركي بذلك، بل أبدى استياءه من تواصل منسق شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي بريد ماكغورك، مع قسد واصفا إياه بأنه "يعد بمثابة مدير تنظيم ي ب ج - بي كا كا، إنه يتجول بحرية مع التنظيمات الإرهابية في المناطق التي نكافحها فيها".
نبرة أردوغان التصعيدية تجاه تعاطي الولايات المتحدة مع فروع تنظيم "بي كا كا" في سوريا، يشي برغبة أنقرة في تحقيق تقدم في ملف حسم مصير مستقبل مناطق النفوذ شمال شرقي سوريا.
وتركيا بذلك تخوض معارك دبلوماسية على جبهة أخرى هي روسيا، لحل المشاكل العالقة بينهما والتي ما تزال التفاهمات حولها غير واضحة، ومنها إنهاء وجود فروع تنظيم "بي كا كا" بسوريا، لا سيما أن موسكو بدأت بتكثيف اللقاءات بشكل دوري مع وفود من مجلس سوريا الديمقراطية وهو الذراع السياسي لقوات "قسد".
وكانت آخر زيارة معلنة أجرتها الرئيسة المشتركة للمجلس إلهام أحمد، منتصف سبتمبر/أيلول 2021، والتقت حينها في موسكو بالمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، للتباحث حول مصير المجلس.
ويذهب الكثير من المراقبين إلى اعتبار أن ملف شمال شرق سوريا هو من الملفات "المتداخلة مع ملفات أخرى" بين أنقرة وموسكو ولا يمكن فصلها عن بعض.
ملفات متشابكة
وفي هذا السياق، يؤكد المحلل السياسي التركي هشام جوناي، لـ"الاستقلال" أن "تركيا تعتبر بي كا كا المصنف لديها ولدى الولايات المتحدة على أنه منظمة إرهابية، ويمثل تهديدا لأمنها القومي بسبب وجود تيار انفصالي في الداخل التركي، وبالتالي فإن الفراغ الأمني في سوريا مكن هذا التنظيم من إنشاء منطقة تتمتع بشبه حكم ذاتي شمال شرقي سوريا".
وأضاف: "لذلك تريد تركيا اليوم من الولايات المتحدة مغادرة المنطقة لكونها تزود بي كا كا بالأسلحة والمعدات اللوجستية وتدرب عناصره".
واعتبر جوناي أن مطالبة تركيا لروسيا بإنهاء وجود فروع "بي كا كا" في سوريا، "يتقاطع مع ربط روسيا موقفها حول شمال شرق سوريا بانسحاب تركيا من منطقة إدلب وتمشيط تلك المنطقة من التنظيمات الإرهابية التي أيضا توعدت أنقرة بالقضاء عليها وفقا لمخرجات مساري سوتشي وأستانا".
وينص أحد بنود اتفاقية "سوتشي" الموقعة بين الرئيسين التركي والروسي في سبتمبر/أيلول 2018 التي تحكم مصير محافظة إدلب، ولم تطبق بنودها بالكامل، على "إبعاد جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية عن المنطقة المنزوعة السلاح" التي يتراوح عمقها من 15 إلى 20 كيلومترا في إدلب.
ورغم أن النفوذ التركي العسكري عبر الجيش الوطني السوري المعارض، توسع قرب مناطق قوات قسد بعد عملية "نبع السلام" العسكرية في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019 والتي وتركزت في محافظتي الحسكة والرقة، إلا أن ذلك بنظر الكثير من المراقبين "غير كاف لإخضاع منطقة شمال شرق سوريا لسيطرة أنقرة".
إذ جرى خلال "نبع السلام"، إبعاد قوات "ي ب ج" الكردية مسافة 30 كيلومترا عن الحدود التركية وبسط الجيش الوطني سيطرته على مساحة تزيد عن 4 آلاف كيلو متر مربع، بهدف إنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم.
وإلى الآن نجحت أنقرة في قطع الطريق أمام محاولات قوات "ي ب ج"، بوصل شريط من القرى والمدن على الحدود السورية التركية مع بعضها تربط محافظات "الحسكة، الرقة، حلب"، لمنع قيام كيان كردي شمال سوريا على حدودها، بدعم من الجيش الوطني السوري عبر العملية العسكرية الأولى التي حملت اسم "غصن الزيتون".
وانطلقت "غصن الزيتون" في 20 يناير/كانون الثاني 2018، وجرى خلالها السيطرة على مدينة عفرين شمال حلب وطرد عناصر "بي كا كا"، وانتهت في مارس/ آذار 2018.
الرابح الأكبر
لكن فروع "بي كا كا"، بقيت تشكل خطرا على الأمن القومي التركي وفق ما يؤكد الرئيس أردوغان، ولا سيما أنها تستأثر حاليا وبدعم أميركي بـ90 بالمئة من حقول النفط، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا، ومعظمه في محافظة الحسكة ذات الأهمية الإستراتيجية والحدودية التي تربطها مع كل من تركيا والعراق.
وفي مارس/آذار 2020، كشف الرئيس التركي أنه عرض على بوتين "الاشتراك في إدارة حقول النفط في دير الزور (خاضعة لقسد) بدلا من استغلال الإرهابيين لها"، مضيفا "أنه إذا قدم الدعم الاقتصادي فبإمكاننا عمل البنية، ومن خلال النفط المستخرج يمكننا مساعدة سوريا المدمرة في الوقوف على قدميها".
واعتبر هذا التصريح وقتها من أردوغان بمثابة استشراف لواقع مناطق شمال شرق سوريا مستقبلا في حال حدوث تغير في خارطة النفوذ العسكري بالبلاد وتطبيق الولايات المتحدة خطة الانسحاب التي سنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نهاية 2018 وخفض بموجبها عدد الجنود وجعل مهمتهم محصورة بحماية آبار النفط.
ووضع الخبير العسكري والإستراتيجي السوري، فايز الأسمر، تصريح أردوغان حول الانسحاب الأميركي "في إطار إعلامي دبلوماسي مفتوح، لأن كل غازي سيلملم بالنهاية قواته ويترك البلاد لأهلها ولن يتحمل تكاليف وضريبة وجوده سياسيا واقتصاديا وعسكريا إلى ما لا نهاية، وهذا ما حدث للقوات الأميركية سابقا إن كان في لبنان أو فيتنام أو أفغانستان وغيرها".
وقال الأسمر لـ"الاستقلال": إنه "من ناحية من الخاسر والرابح ومن سيملأ الفراغ في حال حدوث انسحاب أميركي مفاجئ أو مخطط له فالخاسر الأكبر والوحيد هي مليشيات قسد التي ستقع حتما عسكريا بين مطرقة تركيا والفصائل المعارضة وسندان النظام وروسيا ولن تتحصل في نهاية هذا الأمر كما يقال لا على بلح الشام ولا على عنب اليمن".
ولفت إلى أن "الرابح من الانسحاب إن تم، فجزئيا تركيا لكونها تعي تماما أن تمرد قسد وتغولها الذي يقض مضاجعها موجود قرب حدودها الجنوبية سينتهي ويزول بالانسحاب الأميركي، وسيتلاشى أيضا معه حلمها الوردي في روج آفا وإقليم غرب كردستان بعد أن تصبح لقمة سهلة لها أو لقوات النظام".
اختراق محتمل
وبين الخبير العسكري الأسمر أن "الواقع التكتيكي والميداني يقول إن روسيا والنظام هما أكبر المستفيدين من الانسحاب الأميركي في حال حدوثه، وهما على أهبة الاستعداد والأقرب ميدانيا وتكتيكيا لملء الفراغ".
وتابع: "مليشيات قسد وتحسبا من النفوذ الروسي والإيراني ستقوم بتسليم كل الأراضي والمقدرات في شرق الفرات سلما لا حربا لبشار الأسد، وسيدفعها أيضا للإسراع بذلك المطرقة التركية التي تلوح بها موسكو إذا لم تلتزم قسد بذلك".
وتشير المعطيات إلى أن أنقرة لا تتلقى أي استجابة من واشنطن حول المليشيات الكردية التي لا تزال تدعمها شمال شرقي سوريا، في وقت تبدي فيه روسيا استعدادا واضحا لملء الفراغ الأميركي هناك.
ورغم أن الولايات المتحدة تتحفظ على التعاطي مع تركيا الشريك المهم في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، في مسألة تبني القوات الكردية، إلا أن بعض الخبراء يرون أن الباب "ما يزال مفتوحا" أمام أنقرة لتحقيق اختراق في هذا الشأن.
ولعل القيادي في المعارضة السورية، فاتح حسون ركز على هذه الجزئية ولفت إليها بقوله لـ"الاستقلال" إن "روسيا القطب العالمي الثاني تسعى لاستغلال أي فرصة للتمدد على حساب الوجود الأميركي شمال شرق سوريا، ولا أعتقد أن موسكو ستترك ثروات تلك المنطقة تذهب لغيرها".
وأشار حسون إلى أنه من الصعب على "أي دولة أن تقارع وتنافس أعظم دولتين في العالم أميركا وروسيا، لذا يتوجب على تركيا أن تقوم بتكثيف العمل والتنسيق بمختلف المجالات الأمنية والسياسية مع روسيا وأميركا وإقناعهما جديا بضرورة وجود قواتها لضمان أمنها القومي وإيجاد تفاهمات معينة ترضي جميع الأطراف".